قيادات بنكهة «أوصاف الوظيفة»

أكثر من ٥ سنوات فى الشبيبة

أحمد المرشدربما يمر الكثير بين الحين والآخر بتجارب مؤلمة في تعاملاته مع الآخرين، كأن يكتشف مثلا أن صديقه الذي تربي معه منذ الصغر قد تبدلت أحواله، لا أقصد الأحوال المادية والاجتماعية فهذا أمر طبيعي نمر به جميعا إذ يتبدل الحال إلى آخر، وإنما مقصدي هنا هو تبدل مفهوم الصداقة وبدلا من أن تكون قائمة على الود والاحترام وتبادل المشاعر الطيبة تظهر فجأة علامات تشير إلى حدوث النقيض مع ما سبق، ليتغير معدن الرجال من صديق إلى عدو، من أخ فاضل وعزيز إلى صانع مشاكل وواضع عراقيل، وبمعنى آخر يتبدل معدنه من النفيس الذي نصفه في معظم أحاديثنا بـ»الذهب» إلى ما دونه قيمة، فالذهب يزداد بريقه وقيمته مع الزمن ولا يقل أبدا وهكذا هو المفترض أن يكون في الرجال وغيرهم، فالمعدن الطيب لا يندثر بمرور الأيام، أما المعادن الرخيصة فلا قيمة لها حتى لو مر عليها قرون من الزمان.ونبدأ حكاتنا عن المعدن النفيس بقصة تظل تحكيها مدينة سامراء شمالي بغداد حدثت قبل أعوام كثيرة ربما تتجاوز الثمانين عاما، وقد اشتهرت المدينة آنذاك بالعلامة الكبير «أبو الحسن» والذي ترأس آنذاك جامعتها الكبيرة المرموقة علمياً، واشتهر بأنه ألمع رجالات الفكر في العراق ويؤمه عدد كبير من الطلاب من شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي، وكان من بينهم طالباً فقيراً رغم أنه أنبغهم ويعيش من مبلغ بسيط يمنحه إياه أستاذه أبو الحسن تشجيعا له على نبوغه في تحصيله العلوم ومن أجل أن يحقق طموحه بأن يصبح أحد أعمدة العلم في بلاده.ومر الطالب الفقير بموقف مأساوي كاد أن يحطمه ويجعله في إنهاء تعليمه، ففي يوم من أيام الصيف الحارة وبينما كان يسير جائعا عرج إلى بائع ليشتري منه وجبة غدائه من الخبز والفجل، ولم يكن يملك وقتها سوى فلس ونصف في حين تكلف الوجبة التي كان يبتغيها فلسين، فاشتري خبزاً بفلس وواصل سيره حتى وصل إلى صاحب محل الخضروات وطلب منه باقة فجل التي تتكلف فلسا. فقال للبائع إنه لا يملك سوى نصف فلس فقط، فرفض البائع بيعه الفجل، فما كان من الطالب سوى أن عرض على البائع أن يفيده بعلمه مقابل الفجل فرفض البائع مجدداً العرض قائلا: لو كان علمك في الأمور الفقهية أو العلمية ينفعك لكسبت نصف فلس من أجل إكمال سعر باقة فجل واحدة.. وزاد البائع الطين بله لينصحه بأن يذهب وينقع علمه بالماﺀ ويشربه حتى يشبع!وهنا كانت الصدمة مروعة للطالب الفقير إذ شعر بألم شديد وبات في حيرة من أمره، فكلمات البائع كانت أشد من ضرب السيف على نفسه، فخرج من عنده وهو يتمتم قائلا: كلام البائع صحيح فلو كان علمي ينفع لكنت أكملت سعر باقة الفجل الواحدة، فعلم عشرة أعوام لم يجلب لي نصف فلس. لم ينته الأمر على هذا، فقد شعر الطالب بأن عمره يضيع هدراً على شيء لم يجلب له نصف فلس ليكمل غداءه، وسيطر عليه الشعور بالتدني حتى أنه قرر في لحظة يأس أن يترك الجامعة ويبحث عن عمل يستطيع به أن يشتري قوته. ومرت بضعة أيام دون أن يظهر في الجامعة حتى افتقد حضوره العلامة الكبير فسأل الطلاب عنه فأبلغوه بأنه ترك الجامعة وبات يعمل ليصرف على نفسه، فاستغرب العلامة أبو الحسن وقرر مقابلته رغم نصيحة الطلاب بعدم زيارته لأن لسان حالهم يقول كيف لأستاذ كبير يزور طالب عنده وكان معظمهم يغيرون من هذا الطلب لقربه من قلب الأستاذ!..ولم يرضخ أبو الحسن لرأي طلابه وذهب لبيت الطالب بعدما عرف العنوان، فخجل الطالب من دخول أستاذه وبادر بسؤاله عن سبب تركه الجامعة؟ فسرد الطالب قصة الغداء وعيناه تذرف الدمع الغزير، فما كان من الأستاذ إلا أن منحه خاتماً ليبيعه ويعيش من ثمنه على أن يواصل تعليمه. وكان للعلامة أبو الحسن حكمة من وراء ذلك، حيث ذهب الطالب ليبيع الخاتم في محل للصاغة بالمنطقة، وقبل أن يدفع الصائغ مبلغ ألف دينار ثمنا للخاتم سأل الطالب: من أين لك هذا الخاتم القيم بينما شكلك لا يوحي بأنك غني، فأبلغه الطالب بأنه هدية من أستاذه المرموق أبو الحسن والذي كانت شهرته ملء السماء والأرض في سامراء وقتذاك، وعندما لم يقتنع الصائغ بهذا الرد قرر أن يذهب إلى العلامة الكبير ليتأكد من قول الطالب ويطمئن قلبه، وذهبا بالفعل معا إلى الأستاذ الذي أكد صدق رواية طالبه الذي شكر بدوره معلمه على حسن صنيعه معه.القصة لم تنته بعد، ولنصل للحكمة المقصودة من إهداء الأستاذ الخاتم الذهبي لطالبه النجيب، فقال الأستاذ للطالب: أين ذهبت عندما أردت بيع الخاتم؟ فرد الطالب: ذهبت لمحلات الصاغة مباشرة. ثم باغته الأستاذ: لماذا ذهبت إلى محلات الصاغة دون غيرها؟ فأجاب الطالب: لأنهم هم الذين يقيمون الخواتم والمعادن الثمينة. فتعجب الأستاذ وتساءل: فلماذا إذن قبلت أن يثمنك ويثمن علمك بائع الخضروات ويقول إن علمك لا ينفع شيئاً واتركه واعمل لتوفر قوت يومك!، وأنا أثمنك كأفضل طلابي، فلا تدع لأن يثمنك سوى من يعرف قيمتك الحقيقية.ولعل هذه القصة تنطبق على حالنا، إذ ربما نقع نحن أو غيرنا في تقييم أمر ما بصورة خاطئة، وعلينا أن نتوقف عن مثل هذا التقييم السلبي أو حتى الإيجابي والذي يكون في غير محله، فالناس كما يقول المثل «الناس معادن» فلا يعرف قيمة المعدن النفيس إلا صاحب الاختصاص. ومشكلة التقييم الخاطئ لا ترتبط فقط بتثمين الناس بعضهم لبعض، ولكن أيضا في حال تعيين قيادات غير واعية بالموقع الذي تولت رئاسته، فوضع شخص غير مناسب في مكان ما أمر من شأنه تحقيق خسائر جمة لا حد لها، فالاعتداد بالخبرة في المناصب العليا أمر مطلوب بشدة وعلينا أن نتجنب المحاباة في التعيينات إعمالا لحكمة أبائنا «الشخص المناسب في المكان المناسب». فتعيين إنسان ضعيف ما في موقع مهم سيجلب الفشل بالتأكيد على الجميع، فلا يجب أن نسير وراء أهوائنا وعواطفنا وعلينا أن نضع أطراً عامة لمهام المناصب ثم ننظر في من يستحق تبوأ قيادته حتى يكون التقدم عنوانا لنا. وعلينا أن نقتبس من الغرب مصطلح «وصف الوظيفة» أو «Job Description « ونعممه في جميع وظائفنا على أن نقنن عملية الاختبارات التمهيدية قبل تولي المناصب وفقا لمن تتفق خبراته مع أوصاف هذه الوظيفة ولا أن نرضخ لمنزلة أو جاه أو قرب المرشح من قلب المسؤول عن التعيينات، فكم من مصنع وشركة أفلست بسبب سوء اختيار قياداتها، فالمعدن الأصيل يظهر في مثل هذه المواقف بينما ينكشف المعدن الرخيص في أول اختبار، وكم أظهرت الحياة المعادن النفيسة لرجال وهبوا أنفسهم لخدمة الوطن وقت المحن والشدائد، مقابل آخرين ينسحبون من أول معركة إذ لا ينجح معدنهم الرخيص سوى في اصطياد الغنائم وقت الرخاء وتحقيق مصالح شخصية. وطبيعي أن يتسلح الرجال ذوي المعدن النفيس على الدين والعلم والآداب ويتمسكون بالقيم والمبادئ، لتظهر معادنهم الحقيقية وقت الشدائد، فلا يذوبون ويختفوا كالرماد إذا تعرضوا لنار حارقة بل يزيدهم الحريق بريقا ولمعانا مثل الذهب، مقابل كثيرون يذوبون حتى قبل أن تلتهب هذه النار ونراهم ينصهرون. فالرجال ذوي المعادن النفيسة تصقلهم التجارب القوية بينما يقع الضعاف في أول معترك وسهل جدا تراهم أياديهم وهي ترتعش.ويقول الإمام الشافعي عن الشدائد وتجاربها وكيف يستفيد منها: جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ... وَإِنْ كَانَتْ تُغَصِّصُنِي بِرِيقِي/ وَمَا شُكْرِي لَهَا حَمْدًا وَلَكِنْ... عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صَدِيقِيوصدق الشافعي لأن المعدن الأصيل يظهر في المواقف حالكة السواد، ومنها نعرف الرجال، ومنهم من يثبت على معدنه الذهبي الأصيل، ومنهم من يبيع الأصالة بثمن بخس نظير مصلحة آنية، ولا أقول هنا إن الذهب بات معدنا نادرا ولكن ربما نجتهد في البحث عنه وعلينا ألا نيأس من العثور على الرجال ذوي المعادن النفيسة. ولعل الأهم في حديثنا هذا هو مصلحة الوطن من قبل ومن بعد، فكم رأينا رجالا دفعتهم مصالحهم الشخصية والآنية إلى تبدل معادنهم وشرعوا في بيع الوطن بثمن بخس، بعد أن نهلوا من خيراته الكثير، فكانت وطنيتهم مزيفة وانقلبوا على وطنهم وعلينا بعدما اغتنموا المكاسب وفروا بما ربحوه في أحضان الخونة.. فكريم الأصل كالغصن كلما حمل ثمارا تواضع وانحنى.. فهكذا هم الرجال الأصيلة.كاتب ومحلل سياسي بحريني

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على