نظريات حول الدولة مشروع الدولة الدينية يتحدى الحداثة السياسية (٦ ٧)

أكثر من ٥ سنوات فى التحرير

منذ صعود الحركة الإسلامية السياسية، فى ظل عمليات أسلمة السياسة المعتقلة والخطاب السياسى الساداتى -كمجاز وتعبئة وأداة صراع مع الخطابات السياسية اليسارية والقومية والليبرالية الأخرى- استمرت الشروخ تسرى فى بنية الموحدات القومية المصرية فى الدولة، والأمة، وبين آحاد الناس -على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية ... إلخ- وذلك فى ضوء تزايد مؤشرات تديين المجال العام واللغة اليومية، والترميزات الإسلامية والمسيحية على اختلافها بين النعومة والحدّة.

أدت عمليات إنتاج العنف الخطابى والرمزى والمادى إزاء الأقباط فى عصر الرئيس أنور السادات، ثم فى ظل حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، إلى تراكم أشكال من الكراهية، ونزعات اللا تسامح بين "المواطنين" فى الحياة اليومية، وانكسرت بعض المساحات المدنية والحداثية فى الثقافة اليومية للمصريين، مما أدى إلى هيمنة بعض من ثقافة التمييز والاستبعاد وانتشرت بعض العلامات الدينية، خاصة مع تحول النزاعات اليومية العادية والمألوفة إلى "طائفية"، ولا سيما فى مجتمع أزمات ممتدة، وعسر فى الحياة، وعدم قدرة الغالبية الساحقة من المصريين من أبناء الفئات الوسطى الصغيرة والعمال والفلاحين على تلبية احتياجاتهم الأساسية. (i)

كان من أبرز المتغيرات المؤثرة على وحدة الأمة المصرية الحديثة حول الدولة القومية، إعادة طرح مشروع الخلافة الإسلامية فى إطار فكرة الجامعة الإسلامية ولا سيما لدى بعض الإسلاميين السياسيين، وبعض من قادة جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما شكل تحديا لمفهوم الدولة القومية، وكذلك "للوطنية" المصرية وتراثها الحداثى الذى تبلور وتطور فى إطار الحركة الوطنية الدستورية المعادية للاستعمار البريطانى، ثم فى مواجهة الإمبريالية الغربية، وفق المصطلحات التى سادت فى خطاب حركة التحرر الوطنى فى أوائل الخمسينيات حتى عقد السبعينيات من القرن الماضى.

من الملاحظ أيضا أن الفكرة الإسلامية الجامعة طرحت فكرة الدولة الدينية أو أسلمة الدولة المصرية، وتحويلها من دولة/ أمة إلى دولة إسلامية (ii) سواء عبر استراتيجية انقلابية بالتغيير من أعلى، وذلك من قمة النظام واستبعاد قادته عنوة واغتيالا كما كان الأمر سائدا لدى جماعتى الجهاد الإسلامى، أو الجماعة الإسلامية فى مشروعهما القديم للتغيير السياسى الانقلابى بالقوة، وهو ما أدى إلى اغتيال الرئيس السابق محمد أنور السادات.

المشروع الثانى: لتغيير طبيعة الدولة ينقسم إلى اتجاهين رئيسين هما:

1- مشروع يرمى إلى التغيير الإسلامى للدولة وهياكلها، وذلك عبر الأسلمة من أسفل من خلال بناء شبكات اجتماعية قاعدية تقدم الخدمات للمواطنين المعسورين والشرائح الوسطى/ الصغيرة ولا سيما فى المدن الكبرى وقيعانها وهوامشها، وذلك من خلال بعض الجمعيات الأهلية، أو الأشخاص، أو المساجد والمستوصفات الخيرية. من ناحية أخرى الأسلمة من الوسط من خلال النفاذ إلى المؤسسات التمثيلية – النقابية كما حدث ولا يزال فى نقابات الأطباء والمحامين والمهندسين.. إلخ، أى عبر السيطرة على النقابات المهنية الممثلة للشرائح الوسطى. هذا التوجه لم يقتصر فقط على ما سبق وإنما سعى إلى التمدد داخل بعض النقابات العمالية من ناحية، وامتد إلى الترشح فى انتخابات مجلس الشعب وتمكنهم من النجاح فى الانتخابات، ووصل مستوى نجاحهم السياسى إلى درجة الحصول على خمس أعضاء المجلس بنسبة 20% من حجم العضوية، وذلك من قبل جماعة الإخوان المسلمين فى انتخابات مجلس الشعب التى أجريت عام 2005.

2- مشروع التمدد السلفى الناعم لأسلمة المجالين الخاص -عبر نظام الزى إسلاميا- الحجاب ثم النقاب والإسدال وغيرها من أزياء مرموزات، وفى اللغة وبعض طقوس التدين .. إلخ، ومن خلال العلامات والرموز الدينية وبعض الاستعراضات للشعارات والحضور السلفى فى الحياة اليومية.. إن الهيمنة الرمزية للحركة السلفية -على اختلاف جماعاتها وخطاباتها- حققت عديد النجاحات فى بعض من الأسلمة الرمزية للواقع المعاش.

الجدل حول عمليات الأسلمة ومراميها السياسية والإيديولوجية شملت مسألة الدولة الدينية، وذهب بعض الباحثين -جابر عصفور- إلى الإشارة إلى "الخطر المقترن بالصفة البشرية لا الدينية لمفهوم الدولة الدينية، فهى دولة بشرية، لو أمكن قيامها، تحكمها مجموعة من البشر، تتحدث باسم الدين، وتنوب عنه، وتحتكر تأويله وتفسيره، وادعاء معرفته، ومن ثم تقيم تطابقا تخييليا بينها وبينه، فتصبح هى إياه، أو يصبح هو إياها على سبيل التخييل لا التحقيق. أقصد إلى أن شرع الله ليس هو الذى يحكم فى حالة الدولة الدينية، وإنما مجموعة البشر التى تدعى الإنابة عنه واحتكار المعرفة به، رافضة أن يشاركها غيرها فى الإنابة أو الحكم أو المعرفة".

ويرتب هذا الباحث -وبحق- على ما سبق القول إن هؤلاء الدعاة للدولة الدينية يعدون أنفسهم "المصدر الوحيد لتفسير النصوص المقدسة للدين، والناطق الأوحد لمقاصدها، وقولها أو حكمها هو الحق وما عداه الباطل". (iii)

ولا شك أن الجدل الصاخب حول الدولة الدينية والإسلامية، أدى إلى إبراز بعضهم لمخاطر الدولة الدينية على الحريات العامة والشخصية، وعلى مبدأ المواطنة وحقوقها وفق المنطق الحداثوى من عملية تديين المفهوم وإحالته إلى منطق دينى.

الخطاب النقدى حول الدولة الدينية/ الإسلامية، أدى إلى اتساع مساحات القلق بل والخوف دون مبالغة لدى الأقباط من زاوية أثرها السلبى المتوقع على حقوقهم كمواطنين، وأيضا على شروط وجودهم السياسية والاجتماعية والدينية، وكذلك لدى بعض القوى السياسية الأخرى الرافضة لمشروع الإسلام السياسى حول الدولة الدينية.

فى أعقاب 25 يناير2011، ووصول جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين، إلى سدة الحكم، ونزوعهم إلى المغالبة لا المشاركة كشف الخطاب السياسى الدينى لكليهما عن الاتجاه إلى تديين الدولة على نحو ما برز فى دستور 2012، وفى الخطابات البرلمانية على نحو أدى إلى تجسيم مخاوف القوى المدنية والأقباط من مخاطر هذه النزعة إلى تديين الدولة والعمليات السياسية، وأثرها على نمط الحياة الحديثة للدولة والمجتمع، وعلى النظام القانونى الوضعى الحديث، على نحو يؤدى إلى المساس بحقوق المواطنة والحريات الدينية ومبدأ المساواة الدستورى. ما فاقم هذه المخاوف الأحداث الطائفية الأليمة التى وصلت إلى أكثر من 42 واقعة اعتداء على الكنائس القبطية، والممتلكات الخاصة، والأشخاص.

شكلت تجربة حكم الإخوان والسلفيين أحد الدروس القاسية على مخاطر سياسة تديين الدولة والعمليات السياسية، على طبيعة الدولة والأمة الحديثة فى مصر، ومن ثم كانت ردود الفعل الشعبية الرافضة عارمة إزاءها فى 30 يونيو 2013، وما بعد، ثم إزاحة الإخوان المسلمين عن السلطة.

المراجع

(i) انظر فى هذا الصدد: نبيل عبد الفتاح، رؤية تحليلية ونقدية لواقع العنف الطائفى فى ظل موجات الارتفاع الدينى ونقدنا لهذا التعبير الذى تبنته مجموعة "مصريون ضد التمييز". ويلاحظ عديد الأخطاء المطبعية التى وردت بدراستنا المنشورة وكما وردت فى د. محمد منير مجاهد (إعداد)، وآخرين، مصر لكل المصريين وثائق المؤتمر الأول لمناهضة التمييز الدينى، من ص 133 إلى ص 141، الناشر، مركز المحروسة للنشر، ومصريون ضد التمييز الدينى (مارد)، القاهرة، الطبعة الأولى 2009.

(ii) انظر: رؤى إسلامية حول الدولة فى معتز الخطيب (تحرير وتقديم) وآخرين، مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين، ولا سيما دراسات المستشار طارق البشرى حول شخصنة الدولة، وراشد الغنوشى حول مبادئ الحكم والسلطة فى الإسلام، وسعد الدين عثمانى فى الإسلام والدولة المدنية. وانظر أيضا فى ذات الكتاب سابق الذكر: أنور أبو طه، الإخوان المسلمون والدولة، وعبد الرحمن الحاج فى صورة الدولة وظل الخلافة، الناشر إسلام أون لاين، ومكتبة مدبولى، الطبعة الأولى، القاهرة 2010.

(iii) انظر فى هذا الصدد: د. جابر عصفور، نقد ثقافة التخلف، ص 454، الناشر دار الشروق، الطبعة الأولى 2008، القاهرة. ويذهب جابر عصفور إلى أن "الاختلاف على خطاب هذه المجموعة يعنى الكفر والخروج على الثابت المعلوم من أمر الدين الذى تحدده هى ولا يحدده غيرها، والذى تغدو إياه فى علاقاتها بالآخرين الذين لها عليهم حق السمع والطاعة والتصديق وعدم المساءلة، ومن ثم الإذعان والاستجابة إلى كل ما يقال، مهما كان هذا الذى يقال". تابع مترتبات هذه الحالة، فى المرجع السابق ذكره، من ص 454 إلى ص 456.

شارك الخبر على