الليرة والدينار وأوهام الطغاة

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

د. ناجح العبيدي
يُقال إن حسين كامل صهر صدام حسين ردّ على تحذيرات علماء اقتصاد عراقيين من عواقب سياسة طبع النقود دون حسيب ورقيب بالقول: لا يحتاج الدينار العراقي لأي غطاء ذهبي أو خلافه لأن عليه صورة صدام حسين! .. هكذا "أفحم" وزير التصنيع العسكري والرجل الثاني في الدولة العراقية حينذاك عبد المنعم السيد علي أبرز خبراء السياسة النقدية ومعه محافظ البنك المركزي وعلّمهم ألف باء الاقتصاد ودغدغ في نفس الوقت غرور "القائد الفذ" الذي توهم أنه قادر على تحدي قوانين التداول النقدي. 
حدث ذلك في بداية التسعينيات بعد كارثة غزو الكويت، والنتيجة كانت انهياراً لا مثيل له في قيمة الدينار العراقي التي هوت في بعض الأوقات إلى واحد من عشرة آلاف مقارنة بفترة ارتقاء "فارس الأمة العربية" صهوة السلطة المطلقة. هكذا حطّم الدينار جنون العظمة لدى الطاغية بسنوات قبل استسلامه المذل للأمريكيين في عام 2003. ربما تمثل تجربة صدام مع الدينار حالة فريدة من نوعها في التاريخ المعاصر، لكن هناك من يحاول أن يقلدها بهذا الشكل أو ذاك. لم يصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد إلى درجة طبع صورته على الليرة، ولكنه يرى في نفسه منذ أسابيع المنافح الأول والأخير عن الليرة التركية ضد المؤامرة الخارجية التي يحيكها "أعداء تركيا"، ومنهم الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ووكالات التصنيف الائتماني العالمية وصندوق النقد الدولي وتجار العملة ومكاتب الصرافة في اسطنبول. كل يوم يُطلق أرودغان شعاراته العنترية التي تدعو المواطنين لاستبدال ما لديهم من عملات أجنبية إلى الليرة التركية. التركي مطالباً بأن يثبت وطنيته من خلال التخلي عن الدولار والتمسك بالعملة الوطنية بغض النظر عن الخسائر، لكن للمواطن وللأسواق المالية والنقدية رأياً آخر، حيث تواصل الليرة تسجيل تقلبات حادة مقابل الدولار واليورو، وذلك بعد أن فقدت ما يقارب الـ 40 % في قيمتها منذ بداية العام. بهذه الطريقة – كما فعل صدام من قبله - يسرق سلطان أنقرة الجديد مدخرات شعبه ويسخرها من أجل طموحاته الاستبدادية. من المؤكد أن أسباب أزمة الليرة متنوعة ويعود بعضها إلى التوتر مع واشنطن، غير أن الأسباب الحقيقية تكمن في سياسة أردوغان نفسه وأسلوبه في الحكم. فقد تجاهل رئيس حزب العدالة والتنمية تحذيرات البنك المركزي وتمسك بهدف تحقيق معدلات نمو عالية مهما كان الثمن. ضمن هذا النهج ركّز أردوغان على تنفيذ مشاريع استعراضية عملاقة مثل قصره المنيف في أنقرة ومطار اسطنبول الجديد والنفق الضخم تحت قناة البسفور وفوقها جسر أكبر وحفر قناة جديدة بين البحرين الأسود والأبيض ومشاريع كثيرة لتوسيع البنية التحتية في طول البلاد وعرضها. وتُذكر هذه السياسة بما دعاه صدام بالتنمية الانفجارية في سبعينات القرن الماضي، والتي عكست في فترة مبكرة عقلية الانفصال عن الواقع. وبالفعل سجّل الاقتصاد التركي معدلات نمو غير مسبوقة وصلت إلى 11 % في نهاية عام 2017، غير أن هذا النمو مُوّل بالدرجة الأولى بقروض خارجية ودون حسابات واقعية للجدوى الاقتصادية. لهذا كانت النتيجة ظهور اختلالات عميقة في الاقتصاد التركي، في مقدمتها تسارع معدلات التضخم واتساع العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات وفي ميزانية الدولة وهبوط ثقة المستثمرين.تدرك الجهات المختصة في السياسة الاقتصادية والنقدية وفي مقدمتها البنك المركزي التركي خطورة هذه الاختلالات وتسعى جاهدة لتصحيحها بأدوات اقتصادية بعيدة عن عنجهية أردوغان، غير أن سلطان أنقرة الذي كرّس النظام الرئاسي ذو الصلاحيات الموسعة، يرى في ذلك تحدياً لهيبته، فبعد يوم واحد فقط من قرار البنك المركزي المفاجئ في 13/9/2018 برفع معدل الفائدة بمقدار 6,25 نقطة مئوية إلى 24 % عبّر الرئيس الإسلامي عن انزعاجه وحذر البنك بأن لـ"صبره حدوداً". كانت هذه التصريحات بحد ذاتها كافية لكي تفقد الليرة مكاسبها التي حققتها إثر قرار رفع الفائدة وتعود لتتعرض لضغوط جديدة. وبطبيعة الحال، فإن هذا التدخل الفظ في عمل البنك المركزي لن يعزز ثقة المستثمرين وسيفاقم من ظاهرة هروب رؤوس الأموال، لا سيما وأن خبراء كثيرين يرون في عدم احترام استقلالية البنك المركزي أحد أسباب أزمة الليرة. من جهة أخرى، جاء قرار الرئيس التركي الأخير بتنصيب نفسه رئيساً للصندوق السيادي التركي وتعيين صهره ووزير المالية الجديد براءت البيرق نائباً للرئيس ليزيد من شكوك الأسواق والمستثمرين بالسياسة الاقتصادية للدولة التركية.يبدو أن نجاحات الاقتصاد التركي في العقد الأخير والتي وقفت وراء صعود نجم أردوغان قد أدارت رأس الرئيس الإسلامي وجعلته يتصور أنه فوق قوانين الاقتصاد، وأن حل الأزمات لا يحتاج سوى إلى شعارات رنانة وإلقاء خطب وعظات وطنية وإصدار الأوامر إلى أجهزة الدولة. ضمن هذا التصور تندرج بعض القرارات المثيرة للجدل ومنها حظر استخدام اليورو والدولار مؤخراً في الصفقات العقارية وإلزام المتعاملين باعتماد الليرة التركية فيها. مثل هذه الخطوة تثير بالتأكيد حفيظة المستثمرين الأتراك والأجانب على حد سواء، لأنها ستجبرهم على تحمل مخاطر التقلبات الحادة في أسعار الصرف، ففي حالة بيع العقارات هناك عادة فترة زمنية طويلة نسبياً بين إبرام العقد وتحديد السعر والتسجيل في السجل العقاري ودفع السعر.من الملفت للنظر أن مثل هذه الإجراءات، والأغرب منها أيضاً، تطبق حالياً في أنظمة شمولية أخرى مثل إيران وفنزويلا، حيث وصلت عملتا "الخميني" و"البوليفار" إلى الحضيض بسبب السياسات "الثورية" المتهورة لبلدين غنيين بالنفط. وإذا كان نظام الملالي قد أعلن رسمياً وقف التعامل بالدولار، فإن نظام مادورو "الاشتراكي" ذهب إلى أبعد من ذلك وقرر شطب خمسة أصفار من البوليفار بعد أن وصلت نسبة التضخم إلى مليون في المائة. هكذا تتبدد أوهام الطغاة بمختلف توجهاتهم الأيديولوجية على صخرة قوانين التداول النقدي التي لا تعير أهمية لشعارات وطموحات المستبدين. وكما في حالة تركيا والعراق، فإن المواطن العادي هو من يدفع ثمن هذه السياسات الخرقاء. يصعب القول ما إذا كان أردوغان سيستفيد من تجارب العراق وإيران وفنزويلا؟ أم أنه سيُقلد صدام حسين الذي توّج في سنواته الأخيرة سياساته النقدية الرعناء بحظر التعامل بالدولار واعتبار امتلاكه من قبل المواطن جريمة لا تغتفر. وكعادته حدد طاغية العراق الإعدام عقوبة لكل من يخالف هذه الأوامر القرقوشية، غير أنه عندما استسلم للجنود الأمريكيين في أواخر عام 2003 عثر هؤلاء في حفرته على أكثر من سبعمائة وخمسين ألف دولار أمريكي. لا يستبعد أن أردوغان وفي نفس الوقت الذي يطالب فيه مواطنوه بتحويل مدخراتهم من العملة الصعبة إلى الليرة، يحتفظ هو ومساعدوه وقادة حزبه الإسلامي بأرصدة ضخمة من العملة الخضراء.

شارك الخبر على