السعودية تمنع تأليف الحكومة حتى لا تكون للبنان علاقة طبيعيّة مع سوريا

أكثر من ٥ سنوات فى تيار

بقلم جورج عبيد -
 
من سمع وقرأ خطاب رئيس القوات اللبنانيّة الدكتور سمير جعجع في قداس الشهداء في معراب لاحظ أنّ شهادة هؤلاء في مكان والخطاب السياسيّ في مكان آخر. فالتركيز في القضيّة لم يكن بحجمها، وقد مات هؤلاء في سبيل عدم انجرار لبنان إلى الاستعباد أو أن يكون جزءًا مما كان يقول به عبد الرحمن الكواكبي طبائع الاستبداد. وعلى الرغم من ذلك، وإذا رضي صاحب الخطاب المناقشة فمن واجب من عاصر تلك المرحلة أن يسأله هل إن التمزّق داخل الجسد الواحد جسّد الحقيقة المسيحية بكمال رؤيتها وبلاغة حضورها، بغضّ النظر عن الأسباب أو المسببين؟ فإذا سلمنا جدلاً بأنّ الدكتور جعجع كان جوابه "بالتأكيد كلاّ" فلماذا إذًا لا تزال الأدبيات السياسية ببنودها المعلنة وغير المعلنة تمعن في التمزيق داخل الجسد الواحد، من خلال خطاب من شأنه أن يضعف العهد بتطويقه وأخذ لبنان نحو أزمة نظام؟؟
 
لم ينكر أحد على القوات نجاحها في الانتخابات النيابية الأخيرة، وسار كثيرون في مواكب السرور على القاعدة البولسيّة (نسبة إلى بولس الرسول) "من ينقص ولا أنقص انا"، ومنذ ذلك اليوم كان لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون كلام واضح في هذا الشأن مردّدًا بأنّه سنؤلّف حكومة يتشارك الجميع فيها وفقًا لمعيار واحد مستند إلى نتيجة الانتخابات، وستكون للبنان حكومة وحدة وطنيّة، كما كان لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، كلام متكامل مع الرئيس عون، أظهر فيها حرصه على تأليف حكومة يشارك فيها الجميع من دون نأي أو عزل. بمعنى أنّ الحزب الذي يعتبر النقيض لحزب القوات اللبنانية بالعمق الإيديولوجيّ والقيميّ كان مطلاً على القوات اللبنانية في مسألة التأليف ودافع بقوّة وحزم على أن تكون القوات ممثلة مع تيار المستقبل والحزب التقدميّ الاشتراكيّ في الحكومة لينتعش البلد ويدرك السلام.
 
إلى أن بدأت الأصوات تعلو شيئًا فشيئًا من الحزب التقدميّ الاشتراكيّ الرافض بالمطلق أن يكون الأمير طلال أرسلان جزءًا من الحكومة نسبة لما حصل في الشويفات وإسقاطًا لرؤية أخروية تسللت عبر مفهوم البترو-دولار إلى الداخل وأمعنت بشقّ طائفة الموحّدين الدروز عموديًّا كما شقّت السنّة والمسيحيين. ثمّ راح حزب القوات اللبنانيّة يخوض حربًا وهميّة مفترضًا بأن التيار الوطنيّ الحرّ لا يريد إشراك القوات اللبنانيّة في الحكومة، فيما التيار كان المبادر الأوّل للشراكة مع القوات، وقبل بأن تكون حصة القوات أربع وزارات، فيما رفض القوات اللبنانية لا يزال على وتيرته، وقد أكّد الدكتور جعجع على المسار التصعيديّ للخطاب السياسيّ مستدركًا بأنّه لن يتخلّى عن ورقة التفاهم، فجاء الاستدراك أجوف بمنسوب عال، لتبدو الورقة غطاء وحجابًا وليست قاعدة جوهريّة للتأكيد على التحالف الاستراتيجي والخلاّق في المدى المسيحيّ، ولكونها باتت غطاء وحجابًا ملتبسًا ساغ لكثيرين طرح السؤال التالي: هل تفترض تلك الورقة الفصل بين العهد والتيار، ولماذا الإمعان في الفصل والتفريق؟ ولماذا يمعن في الطعن بالعهد مدافعًا عن صلاحيات رئيس الحكومة فيما لا أحد يقترب منها البتّة بل على العكس فالرئيس يمارس صلاحياته الدستورية وفقًا للمادة 53 من دون المسّ بصلاحيات رئيس الحكومة؟ أمّا الرئيس المكلّف سعد الحريري فقد اندرج في تلك الرؤية وحشد طائفته حوله وكأن ثمّة من يمسّ بدوره ووجوده، فيما من حقّ رئيس الجمهوريّة أن يناقش في التشكيلة ويبدي الملاحظات المناسب سيّما أنّ المادة 53 من الدستور قد أعطته تلك الصلاحية كما أعطته صلاحية رفض التشكيلة أو مناقشتها أو إبداء الملاحظات حولها، بحال وجد فيها وهنًا وبحال أدرك بأنّ الوهن سيتحوّل إلى عطب وخلل كبير وخطير على المستوى اللبنانيّ.
 
خطاب سمير جعجع مضافًا إليه خطاب وليد جنبلاط وسعد الحريري، قاد ويقود البلد إلى تراكم الأزمة بعناوينها الملتهبة فتتم محاولة تطويق العهد بها باستخدام توصيفات عديدة ومختلقة، منها استهلاك لقمة الناس ومعيشتهم والتلاعب بها، وإلصاق الفشل بحلّها بالعهد وسيّد العهد، ومن الكلام المساق، بأن وضع الليرة اللبنانية سيّء جدًّا ووضعها في الأرض. ويتبيّن بأن جزءًا يسيرًا من مافيات مولدات الكهرباء والمياه، والمواد الغذائيّة والنفط والمدارس تستجمع أوراقها مستفيدة من الفراغ الحكوميّ كآليات للضغط الشديد بدعم من تلك القوى، لتقود لبنان نحو انفجار اجتماعيّ خطير، ومعظم هؤلاء هم من الذين أمعنوا في الفساد بالإفساد المتعمّد ولم تتمّ محاسبتهم إلى الآن. وفي الوقت عينه، وبالإزاء مع ذلك، فإنّ تعليمات ترد إلى الأطراف عبر السفارة السعوديّة في لبنان، أو عبر موفدين "يسوحون" ما بين جدّة والرياض، من أجل الإمعان في المماطلة وعدم تسهيل التأليف الحكوميّ وتسييل معاييره. وتكشف أوساط متابعة عن كثب، بأنّ السعوديين يعمدون إلى قيادة الوضع نحو المزيد من الجمود والجليد، حتى يتضح الوضع الميدانيّ ما بين إدلب وجسر الشغور وصولاً إلى شرق نهر الفرات. ومن المعلومات الواردة بأنّ السعودية تعوّل أهمية بالغة على انقلاب الوضع في هذه البقعة وفي داخل العراق. فالخطاب الأميركيّ داعم بشدّة، وجون بولتون يهدّد بعنف، والصواريخ الأميركية ستطلق والفضاء سيكون مسرحًا للطائرات الإسرائيليّة المغيرة محرجة الجيش السوريّ بطلعاتها.
 
وعلى هذا ازداد الخطاب السياسيّ عند القوات اللبنانية تأزّمًا، وجوهره عدم فتح أي علاقة مع نظام الرئيس بشار الأسد وهو نظام غير معترف به في جامعة الدول العربيّة. فيما كلّ ذلك يبقى من قبيل الزعم الضاغط، ولا ينتمي إلى الواقعية السياسية بوقائعها المنظورة حتى الآن.
 
الطامة هي هنا بالتحديد، فتأليف الحكومة بات مرتبطًا بهذه المألفة والمسألة. وتستغرب الأوساط كيف أنّ الدكتور سمير جعجع، نسي بأن الضغط القطريّ والسعوديّ والخطاب آنذاك المتمايل ما بين الترغيب والترهيب فعل فعله عند عدد من الدول العربيّة بهدف إخراج سوريا من جامعة الدول العربيّة، فيما لبنان والعراق لم يصوّتا على هذا القرار، ونسي بدوره بأنّ الدكتور بشّار الجعفريّ هو ممثّل سوريا في هيئة الأمم المتحدة ووزير خارجيتها وليد المعلّم يقف على منصتها دومًا وكلّ سنة ليلقي كلمة بلاده، فأيّ اعتراف بالدولة يبقى الشرعيّ الفعّال عند هذا المستوى، أليس وجود سوريا كعضو في الأمم المتحدة شرعيًّا وفعّلاً؟ لماذا لم يلتفت الدكتور جعجع إلى تلك الناحية؟ وما دام حريصًا على الحقيقة المسيحيّة فإن الأوساط تسأله، أليس شهداء محردة وبينهم نساء وأطفال جزءًا من هذه الحقيقة المستقيمة، وقد سقطوا غدرًا نتيجة قصف القوى التكفيرية هذه القرية من جهة ادلب، وهي مسقط رأس المثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم رحمه الله، ومتربوليت بغداد والكويت غطاس هزيم.
وقد لفت في السياق عينه، كلام مفتي الجمهورية الشيخ دريان، حيث أطلق سهامًا على المشرقيّة بصورة مباشرة، وعل محدثها ومطلقها ومجسدها رئيس الجمهورية العاد ميشال عون بصورة غير مباشرة، متسائلاً من أين اتت وكأنه يزعم بأنها فارغة المحتوى والمضمون؟ وقد تناسى سماحته، بأنّ سوريا ولبنان والأردن والعراق وفلسطين بلدان مشرقيّة لأنها من المشرق، بل هي المكوّنة له وهي تعبّر عن اختلاط المسحية والإسلام في تلك الأرومة سيّما أن المشرقية تحوي السريان والكلدانيين والأشوريين والآراميين فضلاً عن الأرثوذكس والموارنة. ولا يفترض بسماحته أن ينسى بأن دولة الرئيس سليم الحصّ قال بأن العروبة التي يشتهيها سماحته كما نشتهيها تولد من تلاقي المسيحيّة المشرقيّة مع الإسلام القرآنيّ، ولبنان هو المساحة الفريدة لهذا التلاقي، كما أنّ العلاقة مع سوريا عبرت وتعبّر عنها، والحرب الكونيّة على سوريا هدفت لطمرها. كلام المفتي دريان اعاد اللبنانيين إلى زمن غابر لا هو ولا نحن نشتهيه، وتخشى بعض الأوساط أن يكون مكمّلاً لخطاب الدكتور سمير جعجع بوجهه الأخرويّ، وهو مطلوب أن يتعمّم. والخطاب عن الصلاحيات جزء من هذا الخطاب المعمّم.
 
كلّ هذا يرمي إلى حقيقة واحدة، ليس العهد من يؤخّر تأليف الحكومة، بل تلك المألفات المتراكمة، والقضيّة الجوهرية والتي ركّز فيها خطباء البارحة واليوم، وهي العلاقة اللبنانيّة-السوريّة. فالرئيس الحريري رافض لها، ورئيس الجمهورية  مؤمن بها، فبتنا وكما قال جورج نقّاش مرّة: نفيان لا يؤلفان أمّة واحدة، فكيف إذا تداخلت مجموعة تراكمات وباتت ألغامًا معدّة للتفجير؟!
 
ستبقى الأزمة مفتوحة، إلى حين اتضاح الواقع الميدانيّ من إدلب وجسر الشغور وصولاً إلى منطقة شرق الفرات. السؤال المطروح هل نحن متجهون إلى مؤتمر تأسيسيّ وهل انتهى الطائف؟ الطائف انتهى منذ أزمنة غابرة، لقد خدم التسوية الأميركية-السعوديّة-السوريّة في حقبة التسعينيات حتى لحظة الدخول الأميركيّ إلى العراق سنة 2003 واغتيال الرئيس رفيق الحريري سنة 2005، فكيف يمكن أن يحيا في ظلّ حرب مفتوحة ما بين سوريا والسعودية وأميركا وإيران؟
 
النتائج الميدانيّة في سوريا، وحدها ستتكلم ولن يكون لبنان بعيدًا عن المؤتمر التأسيسيّ، السؤال المطروح هل تولد تلك الحكومة لتقود لبنان إلى تلك النتيجة، أو أنها ستكون مولودة المؤتمر التأسيسيّ أو تولد من رحم نتائج ما سيتحقّق من نتائج في سوريا؟ للأيام أن تجيب، وللناس أن تفهم بأن ما يسمعونه ليس لبنانيًّا بل هو نتاج سعوديّ يهدف تحديدًا إلى تطويق العهد، أمّا سيد العهد فواقف كالمارد في مواجهة التطويق حتّى يشرق لنا فجر جديد... وسيكون للبنان فجر جديد. 
 
  
 
 

شارك الخبر على