هل أخطأ عون في خياراته "التموزّية"؟ (بقلم ميشال أبو نجم)

أكثر من ٥ سنوات فى تيار

ميشال أبو نجم - 
يبقى الموقف الإستراتيجي الحاسم للعماد ميشال عون في حرب تموز واحداً من أبرز ظواهر تلك الحرب في الإجتماع السياسي اللبناني. فإذْ كان من الطبيعي تضامن شرائح واسعة من اللبنانيين مع بيئة حزب الله في الوقت الذي يتعرّض فيه للحرب الأقسى -حتى الساعة- بأمرٍ أميركي، تميّز أداء الشريحة المؤيدة لعون باندفاع كبير وحرارة لافتة في احتضان النازحين، تجاوزتا الدافع الإنساني والوطني إلى الإرادة السياسية في إحداث منعطف في الوجدان اللبناني المسيحي التاريخي واتجاهاته.
كان قرار عون بالدعم السياسي الكامل لحزب الله ووقوفه في وجه كل التحذيرات والتهديدات الأميركية مفاجئاً للجميع وللحزب نفسِه. لم يعتَدْ مسيحيو لبنان أن يتخطوا الدولة وشرعيتها إلى دعم حزبٍ له خصوصيته الثقافية والعسكرية ويشارك الدولة، لا بل ينافسها على جوهر طبيعتها ومفهومها في احتكار القوة والعُنف، كما لم تبادر نخبتُهم السياسية والدينية في تاريخ دولة لبنان الكبير إلى الوقوف عكس الإتجاهات السياسية للغرب في المنطقة. بهذا المعنى، كانت سياسة عون الذي استهلّ حياته السياسية بمواجهة إرادة الموفدين الأميركيين من ديفيد نيوتن إلى ريتشارد مورفي وجون مكارثي، مروراً بديفيد ساترفيلد وجيفري فيلتمان، منعطفاً في وجدانهم ومسارهم السياسي التاريخي.
وصحيح أنَّ قراره كان نابعاً من استشرافٍ للتحولات الإستراتيجية في المنطقة والعالم ومحاولة لاستباقها ومواكبتها، لكنّه، وعلى الرغم من أنَّ قراراته الكبرى توازتْ دائماً مع بروز أسئلة في تياره ومؤيديه حول أسباب تلك الخيارات، عبّر، كما منذ العام 1989، عن اتجاهات ونزعات كانت تعتمل لدى المسيحيين خاصةً.
فقد أدرك ميشال عون منذ سنوات، وخاصةً بعد كوارث حرب الجبل وتسليم واشنطن بالسيطرة السورية على لبنان، عقم الرهان على الولايات المتحدة والغرب عموماً، في إيجاد نطاق ضمان لبقاء لبنان واستمرارية الدور المسيحي الرائد فيه. واستطراداً، لا يكفي التقاطع الحضاري والثقافي مع الغرب المتقدم المبني على إرث النهضة لصنع استراتيجيةٍ تضمن البقاء والدور. وهذا العنقود من الرهان على الغرب لا تنفكّ حباته في التناثر في البيئة المشرقية وآخر الموهومين كانوا جماعات المعارضة السورية في كل المناطق الذين يشهدون على تسليم واشنطن برؤية الإدارة الروسية للصراع السوري.
هذه الإستنتاجات كانت هي نفسَها لدى شرائحَ كبيرة لدى مسيحيي لبنان، العابرين للطموحات البشيرية نحو تداعيات ما بعد 1982 والتهجيرات المتتالية، وحتى الفاتيكان نفسه سلّم في العام 1990 باختزالهم إلى وجودٍ مادي فحسب، متغاضياً مع بابلو بوانتي عن أهمية الحضور السياسي الفاعل. شهدوا معه ومع لاعبين آخرين الخيبات ذاتها، من دون أن يكونوا بالضرورة من اتجاهاتٍ يسارية أو قومجية حملت طروحات الإبتعاد سياسياً عن الغرب والإندماج مع المحيط لكنها فشلت بتعبيراتها الفكرية والسياسية بالتقدم ولو قيد أنملة نحو هدفها المعلن. لا بل أنَّ حقيقة هذا الإختمار والتحول صدرت من قلب الإتجاه الوطني أو "الكياني" اللبناني الغالب لدى المسيحيين، والعديد من حاملي هذا الخيار الجديد أتوا من "القوات اللبنانية" بمعنى المؤسسة السياسية والعسكرية التي حملت مشروعاً لمسيحيي لبنان وجمعتْ قواهم الحزبية، وليس بمعناها الحزبي القائم اليوم.
هل أخطأ عون في خياره الإستراتيجي هذا، أو هل تحتاج هذه السياسة إلى مراجعة في واقعنا الراهن اليوم؟
الإمعان في مناقشة هذا السؤال المشروع في لا يمكن طرحه من دون الإطلالة من قلب الصراع الأكبر في تاريخ المشرق وهو الحرب السورية الطاحنة، ومن استرجاع شريطها انطلاقاً من واقعها الراهن المتجه إلى النهايات.
إنَّ مشروعاً سياسياً ريادياً لما بقيَ من مسيحيي المشرق، بقيادة طليعتهم اللبنانية، لا يمكن اعتماده من دون قراءة استراتيجية تتجاوز تنافساتهم الداخلية. واستطراداً، فإنَّ مشروعاً استراتيجياً لا يُبنى على الرهان على قوى إقليمية ودولية تؤدي سياساتها إلى تمزيق النسيج المتنوع لمجتمعات المشرق، وخاصة عبر استخدام الإرهاب التكفيري كأداةٍ جرفت مدناً وبلداتٍ وجماعات بأكملها من يزيديي سنجار إلى مسيحيي شمال سوريا المُستنزفين وصولاً إلى مذبحة دروز السويداء.
المنطق نفسه يقول، إنَّ الإختلاف حول فكرة النهج السلطوي المعتمد من حولِنا، وابتعادنا كدول عن نطاقات الحرية وحقوق الإنسان كما نراها في أحلامنا عن الغرب، لا يعني بالضرورة عدم التلاقي مع قوى صاعدة في الإقليم، ومع أنظمة تبقى على الرغم من سلطويتها وعوراتها في الإدارة الداخلية عنواناً للتماسك ووقف الإرهاب عند حده.
وإذا أكملنا المشهد مع خيبات المعارضة السورية على حلم "الخلاص" الأميركي، ومع انهيار أحلام الأكراد على "الفدرالية" لا بل الدولة القومية المنشودة، وسقوط الإسلام السياسي تحت ضربات العسكر المصري الحامل تاريخياً مشروع تماسك الدولة المصرية ووطنيتها، وصولاً إلى إسقاط طائرة الF-16 الإسرائيلية ومواصلة اختراع الشباب الفلسطيني وسائل مذهلة في المقاومة، يصبح نكران صحة خيارات عون "التمّوزية" إنكاراً للواقع وهروباً من مرآة الحقيقة المتجليّة انطلاقاً من مسرح الميدان السوري.

شارك الخبر على