«تراب الماس».. حينما يصبح الموت البطيء رمزًا للعدالة

أكثر من ٥ سنوات فى التحرير

منذ المشاهد الأولى للفيلم تعرف أنك أمام عمل سيأخذ منك الكثير من الجهد فقط لمتابعته والاستمتاع به، إلا أنه كان عند حسن الظن بعد طول انتظار.. يبدأ "تراب الماس" بفلاش باك للوراء، يعود بك إلى عشية 23 يوليو 1952، ويؤكد أن ما جرى كان "انقلابًا"، يقول الراوي: "أراد محمد نجيب أن يُرسي مبادئ الديمقراطية، لكن من حوله كان لهم رأي آخر، تولى ناصر، وحتى الآن نعيش في تبعات هذا القرار"، بينما في مشهد آخر يقول اليهودي "لييتو": "الضباط خلاص بقوا بيلبسوا ملكي".. و​بالطبع لا يرى عمل فني النور دون ضوء أخضر من الرقابة التي أجازت هذه الجرأة منذ مطلعه.

انتقالات بين الماضي والحاضر نجح المخرج مروان حامد في تقديمها ببراعة، ورغم القفزات الزمنية البعيدة استطاع خلق حل سينمائي موازٍ لها، ومن خلالها يعود بالزمن إلى الوراء إلى نحو 70 عامًا من تاريخ مصر، بدءًا من إجبار محمد نجيب على التنحي، وهجرة اليهود بعد العدوان الثلاثي عام 1956، وعبر تلك السنوات نشاهد ماضي الطفل "حسين"، والد "طه"، الذي يرحل عنه والده بعد أن يترك له نصيحة، سيتخذ منها أسلوبًا لحياته: "كل حاجة غلط بنعملها لازم ندفع ثمنها حتى لو اعتذرنا".

يترك الأب نجله من خلفه وحيدًا ليس له سوى صديقه الجواهرجي اليهودي، يعيش الطفل ويعمل معه، يجد حسين "تراب الماس" أثناء تنظيفه الذهب في محل "لييتو"، وهي مادة تُصيب من يتناولها بالموت البطيء استخدمها "لييتو" لقتل قط ابنته التي يُحبها "حسين"، بعدما أصابه الصرع، يحتفظ به حسين، بحلول نكسة 1967، يعلم الطفل الذي غدا مراهقًا أن "لييتو" عميلًا لإسرائيل على حساب القاهرة، التي تأويه، يتذكر مقولة والده، يتذوق آثام الدماء مبكرًا، ويقتل "لييتو" بنفس الطريقة التي قتل بها الأخير قط ابنته.

يعود بنا مروان إلى عشية رأس سنة 2018، وعبر تلك الرحلة يرصد انعكاسات الأحداث على الحاضر، الذي يعيشه "حسين الزهار" والد "يحيى" بطل العمل، حيث أقعده خطأ طبي عن الحركة، وصار لا يفعل شيئا من خلال كرسيه المتحرك سوى متابعة حياة الجيران عبر مجهر يستخدمه من نافذة شقته، يُشاهد قوة السلطة، والبلطجة، وغياب القانون، والانفلات، يستهويه القتل مع محروس برجاس (يُجسده عزت العلايلي)، الذي نال ثمن فساده السياسي، تتعانق جميع تلك الأحداث لتعلن عن واقع يوشك أن تتكشف تفاصيله بموت ذلك القعيد، ولا يرث عنه نجله سوى حمِله وترابه ومقولته: "ساعات بنضطر نعمل غلط صغير عشان نصلح غلط كبير".

الفيلم ينتقد بعض رجال وزارة الداخلية بوضوح شديد ومباشر، من خلال الشخصية الرئيسية العقيد وليد سلطان (يُجسده ماجد الكدواني)، وهو ضابط قاسٍ، مشهد إخبار "يحيى" بوفاة والده يكفي للتدليل على ذلك، وسادي، ينهال ضربًا على مواطن في الشارع، وفاسد، كل شيء لديه مقابل منفعة مباشرة، صفقات يعقدها مع الجميع ودون مواربة، مبررًا جرائمه التي وصلت إلى حد القتل إلى "يحيى" قائلًا: "إحنا مش مجرمين.. إحنا العدالة"، ثم أشار الفيلم إلى وجود رُتب أعلى داخل الجهاز تراقب ولا تتستر على منحرف.

الفيلم ينتقد أيضًا بعض ممارسات رجال الإعلام بنفس المباشرة والوضوح، من خلال المذيع شريف مراد (يُجسده إياد نصار)، وهو إعلامي لا يؤمن بشيء مما يُمليه مساء كل ليلة على جمهوره، فقط يلعب بمشاعرهم وعقولهم، يُباشر عمله من خلال عقد الصفقات مع من هم أكبر منه، وتنفيذ ما يُطلب، كما أنه مُتعدد العلاقات النسائية، ومن بينها مُعدة برنامجه "سارة" (تُجسدها منة شلبي)، التي لا ينتهي الفيلم إلا بدفعها ضريبة قربها منه، لكنها في النهاية تُعاقبه، وتنتصر لما سُلب منها.

"تراب الماس" يرصد أيضًا العلاقات غير السوية في مجتمع "الناس اللي فوق"، من خلال شخصية هاني برجاس (يُجسدها عادل كرم)، حيث لا تنتهي له ليلة إلا وهو في أحضان رجل آخر، عبّر عن تلك العلاقة العقيد سلطان في حواره مع "يحيى" في جملة: "هاني كل ليلة بينام مع واحد صاحبه.. بيلعبوا عريس وعروسة.. بس هاني اللي بيكون العروسة"، وهناك من ليس لهم وظيفة إلا الإتيان بأشخاص مناسبين لقضاء ليلة مع "هاني"، وهي "بشرى" (تُجسدها شيرين رضا).

التوأمة الإبداعية بين اثنين من صناع السينما الشباب، المخرج الكبير رغم صغر سِنه مروان حامد، والكاتب أحمد مراد، في ثالث تعاون بينهما بعد "الفيل الأرزق" ثم "الأصليين" المكتوب مباشرة للسينما، نضجت تمامًا في "تراب الماس"، من خلال تميز تقني وجودة مع الانحياز للجمهور وإجادة مخاطبته دون اعتماد على استمالات رخيصة سائدة، وإلى جوارهما آخرين مبدعين خلقوا جو عام جاذب للشريط، كديكور محمد عطية، وموسيقى هشام نزيه، ومونتاج أحمد حافظ، وتصوير أحمد المرسي، وملابس ناهد نصر الله.

يُعاب على الفيلم فقط من وجهة نظر كاتب هذه السطور، أنه رغم ثقل غالبية مشاهده إلا أن بعض خطوط السيناريو كانت دون تأثير، فمثلًا في حال إلغاء بعض مشاهد، منة شلبي وإياد نصار لن تتأثر فكرة الفيلم، كما أنها لم تُفد الفيلم فنيًا، كما أن هناك معلومات درامية تم تكرارها، والتأكيد عليها دون داع، مثل مشاهد تجمع شيرين رضا وعادل كرم.

ثمان سنوات درامية، مرّت بها رواية "تراب الماس" منذ صدورها في 2010، وحتى طرحها فيلمًا سينمائيًا، كان من المقرر أن يقوم ببطولتها أحمد حلمي بمشاركة الساحر الراحل محمود عبد العزيز، لكن توقف المشروع، وبدأ فجأة صراع قضائي حول حقوق الرواية التي استعادها مراد، قبل أن تذهب الشخصية الرئيسية في العمل لـآسر ياسين، والذي سرعان ما اغتنم فرصته التي لا تتكرر كثيرًا، ووجد فيه ضالته نحو دور العمر، وقدّم بالفعل أداءً استثنائيًا في شخصية مليئة بمحاور نفسية معقدة ومتناقضة، وما بين شخص هادئ كتوم يحب العزف على آلة "الدرامز" الصاخبة كنوع من التعبير عما بداخله، شخص آخر يظهر بتطور الأحداث.

أجاد مروان حامد كعادته، امتلك أدواته في تكوين الكادرات المبهرة دون تكلف، وفي تسكين وتوجيه ممثليه دون أداء صارخ في التعبير أو زاعق في الصوت، فحصل منهم على أفضل أداء جعل كل منهم يعتبر العمل ضمن الأفضل في تاريخه، تألق كبير معتاد دون نمطية من ماجد الكدواني، ومنة شلبي بتمكنها من التفاصيل، ومحمد ممدوح في دور مميز للغاية، أحمد كمال أثبت أنه ممثل قدير بالفعل، عزت العلايلي ما زال يُحافظ على حضوره حتى وإن ظهر في مشهدين فقط.. العمل في مجمله مميز للغاية، وممتع، يضم عناصر فنية مبدعة، سينما من أجل السينما والجمهور، وهو أحد أهم أفلام الموسم والمواسم السينمائية الأخيرة.

شارك الخبر على