الرئيس والأديب.. أنيس منصور صديق السادات وموفده إلى إسرائيل

أكثر من ٥ سنوات فى التحرير

موسوعة ثقافية.. عبارات رشيقة وذكية.. أسلوب شفّاف ملتصق بالجسم مثل المايوه.. القدرة على الكتابة في كل شيء، من السياسة والأديان وتحضير الأرواح إلى الطبخ.. هي عبارات فقط ربما تُعبر عن جانب من جوانب مميزات امتلكها الكاتب أنيس منصور (مولود في 18 أغسطس 1924) ذكر بعضها عن نفسه، وهي حجر أساسه التي بنى عليها ليصير من الرموز الأدبية الكبيرة التي يصعب تعويضها، فهو كان مفكرًا وفيلسوفًا بإمكاناته وإبداعاته التي تضمن له البقاء أبدًا في خارطة الأدب العربي، كما كان خزينة الكثير من الأسرار، ولا شك أن أهمها للرئيس أنور السادات، حيث جمعتهما علاقة وثيقة وكان الأقرب له في مرحلة حكمه وما قبلها.

المقابلة الأولى

روى منصور أول مرة التقى السادات فيها، بمقالة كتبها نوفمبر 2009 لـ"الشرق الأوسط"، وقال: "كان في أسانسير (أخبار اليوم) أنا نازل ونائب الرئيس عبد الناصر طالع، قال وكانت مفاجأة: أنت أنيس؟ أنا قرأت لك ما كتبته عن بوذا وكونفوشيوس.. شكرته واتجهت إلى الباب.. ناداني العامل: سيادة النائب عاوزك.. رجعت خجلان.. واعتذرت فلم أتصور أنه يريدني، وظل يتكلم في الأسانسير بصفة الأمر، وكان صوته مليئًا، ثم إنه يضغط على الحروف ويوجه لي كلماته مباشرةً.. وبعد ذلك تشعر بأنه رجل ودود.. وأنه من الممكن أن يكون صديقك.. دخل السادات غرفة الكاتب الكبير مصطفى أمين الموجود في السجن آنذاك، وجلس على مكتبه وطلب مني أن أكتب صفحة أدبية.. صدرت الصفحة الأدبية بعد يومين، وأدهشني أن يطلبني السادات ويقول: أهنئك يا أنيس.. الصفحة بديعة وأنت كمان بديع.. وبعد ذلك رأيته ألف مرة".

السلام.. ونوح

كان أنيس منصور من أشد المؤيدين لمبادرة السادات الساعية لتحقيق السلام بالشرق الأوسط، وقال لـ"المصري اليوم" في  لقاء نُشر قبل وفاته (21 أكتوبر 2011) بعامين، إنه بعد انتهاء حرب أكتوبر، تغير الموقف العربي ونظرة العالم لنا، وكان للرئيس السادات زيارة إلى رومانيا في العام 1977، تحدث خلالها معه حول فكرة السلام مع إسرائيل، وقال: "عند انتهاء زيارتنا لرومانيا، وأثناء عودتنا في الطائرة، ذهبت للرئيس وأخبرته أن الطائرة تمر الآن بجوار جبل آرارات، وأخبرته أن هذا هو الجبل الذي رست عليه سفينة نوح الذي سخر منه قومه وقت صناعته لها، دون أن يعلموا أن طوفانًا سيجيء، وأن تلك السفينة هي طوق النجاة لنوح وصحبه، وقلت له إن نوح هو آدم الثاني الذي بدأت به الحياة من جديد على كوكب الأرض، وأنه يمكن له أن يقوم بدور نوح لإنقاذ الشرق الأوسط من طوفان الحرب والدمار، وسوف يقفز من السفينة الخائفون والمتكبرون الذين لا يرون أبعد من أنوفهم".

طائرة خاصة

ومن بين مجموعة المثقفين الذين رافقوا السادات في أثناء زيارته تل أبيب، كان أنيس، ويقول في الحوار إنه في أثناء زيارة السادات للقدس، لم يكن يعلم أنيس باختياره سوى قبلها بيومين، وكان هو وزوجته رتبا أمورهما لزيارة الأراضي المقدسة وأداء فريضة الحج، وسافر بالفعل وعندما وصل مكة غير موقفه واتصل بالسادات فأرسل له طائرة خاصة أقلته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، واصفًا لحظة وصول السادات تل أبيب بالتاريخية التي جعلت العالم يقف ليراها ومنهم الفيلسوف الوجودي سارتر، الذي أوقف سيارته في باريس ليرى مشهد نزول السادات من الطائرة في تل أبيب، وأوضح أنه اشترك في كتابة خطاب السادات بالكنيست، مع الكاتب موسى صبري، والدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية وقتها.

أنشأ له السادات مجلة "أكتوبر" وقام بتعيينه رئيسًا لتحريرها، ونشر عبر صفحاتها العديد من المواقف والحكايات من دفاتر الرئيس الراحل

إسرائيل والشعراوي

وفي مقالة لصديقه الدكتور مجدي العفيفي بـ"الأهرام" في أكتوبر 2017، ذكر أن أنيس منصور سمح له بقراءة بعض مذكراته، ومنها ورقة جاء فيها أن مناحم بيجين، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، أرسل ذات مرة خطابًا إلى السادات يشكو من أحاديث الشيخ متولي الشعراوي، وجاء في إحدى الرسائل أنه يهاجم اليهود ليس في إسرائيل، وإنما في كل العالم؛ مما يؤدي إلى نشر كراهية اليهود، وتهديد السلام بين البلدين، وعليه، طلب منه السادات أن يشاهد الأحاديث الأخيرة للشعراوي، وعاد للرئيس أبلغه أنها عادية، وذكر له أن الشيخ أحد علماء البلاغة القرآنية، ولم يذهب بعيدًا في تفسيره"، يُضيف مجدي على لسان أنيس: "تلقيت من بطرس غالي نص خطاب ألقاه وزير التعليم الإسرائيلي.. وفي الخطاب يقول: إنه لن يتحقق السلام إلا إذا حذفنا من القرآن الكريم الآيات التي تتهجم على اليهود، فأرسلني السادات لكي أقابل بيجين وأقول له: إما أن تتوقف عن اتهاماتك للشعراوي، وإما أن ننشر خطاب وزير التعليم على أوسع نطاق، ونوقظ الكراهية النائمة عند ملايين المسلمين، فقرر بيجين أن يكف عن مهاجمة الشيخ، وأن يُخرس وزير التعليم في إسرائيل".

الصديري الواقي من الرصاص

في مقالة أخرى لأنيس بـ"الشرق الأوسط"، يقول إن عرّافة إسرائيلية تنبأت بـاغتيال السادات في عام اغتياله، فاتصل بوزير الداخلية النبوي إسماعيل يُخبره بذلك، فقال: أنا تعبت مع الرئيس السادات، وكذلك السيدة حرمه تعبت، إنه لا يسمع الكلام ولا يريد أن يرتدي الصديري المقاوم للرصاص، ويقول: الأعمار بيد الله، وانتهزت الفرصة أننا نتمشى.. وقلت له: يا ريس فيه واحدة عرافة إسرائيلية والعياذ بالله تقول.. فقال: تقول ماذا.. تقول إنهم سيقتلونني، قلت: نعم يا ريس. فقال: أبو العلاء قال إيه.. قال:

مشيناها خطى كُتبت علينا.. ومن كُتبت عليه خطى مشاها

ومن كانت ميتته بأرض.. فليس يموت في أرض سواها

يقول: "انتقل الرئيس إلى الحديث في موضوعات أخرى.. سألني: ماذا ستكتب غدًا.. قلت له، ولكن في ضيق شديد: يا ريس الاحتراس واجب.. ولماذا لا ترتدي الصديري يا ريس..إنه.. قاطعني: الله إنت هتعمل زي جيهان؟ غيّر الرئيس الكلام في هذا الموضوع، وسألني إن كنت قابلت فلانًا. فقلت نعم، وسألني إن كان من رأيي أن أذهب إلى إسرائيل وأقابل فلانًا. فقلت: تحت أمرك يا ريس.. فقاطعني: إنه سوف يجيء إليك ويطلب مقابلتي لأن موقفه في الحزب ضعيف، وبعد أيام جاء هذا الزعيم الإسرائيلي إلى مصر وطلب أن يقابل الرئيس وقابله، وحضرت المقابلة وكان ما توقعه الرئيس، فبدأت الصحف في إسرائيل تهاجمه.. وصافحني الرئيس وقلت: يا ريس الله يخليك ترتدي الصديري.. فقال ضاحكًا: إن شاء الله لا".

النكات

في مقالة أخرى يقول: "كان من عادة السادات أن يسألني: إيه أخبار النكت يا أنيس؟ ويكون ردي دائمًا: يا ريس إنت عندك كل أجهزة المعلومات وتستطيع أن تسمع دبة النملة وأن تعد أنفاس الناس.. ويقول: يعني مش عاوز تقول.. طيب يا سيدي أنا أقول لك آخر نكتة وصلتني، وتكون نكتة جديدة.. ولا أستطيع أن أقول له النكت التي عليه أو النكت الجنسية، وفي يوم جاء رئيس المخابرات الفريق الماحي، وسأله الرئيس: إيه آخر النكت يا ماحي.. قل ولا تخف.. وجدت الرئيس يضحك من قلبه.. إنها نكتة لم يكن يعرفها، وبعد دقائق عدت.. سألني: ماذا سمعت في إسرائيل من نكت.. وقلت واحدة فقال قديمة، النكتة الجديدة هي أنه لو عاش واحد يهودي في جزيرة وحده فإنه يبني معبدين: واحد لكي يصلي فيه والثاني لكي لا يصلي فيه".

ولا تنتهي حكايات أنيس منصور، خاصةً المتعلقة بالرئيس السادات، حتى إنه صدر عنها عدة كتب من بينها كتابه "من أوراق السادات"، وهي تفريغ لجلسات طويلة مع الرئيس.. ويظل أنيس واحدا من رواد الأدب والصحافة في مصر والعالم العربي، ومن أهم من أمسك بالقلم وخط بيده في علم الفلسفة والوجودية تحديدًا.

شارك الخبر على