استراتيجية ترامب العظيمة

أكثر من ٥ سنوات فى الشبيبة

براهما تشيلانيإن عجز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن التفكير بشكل استراتيجي يقوض العلاقات طويلة المدى ويقلب النظام العالمي رأسا على عقب ويعمل على تسريع انحدار النفوذ العالمي لبلاده وذلك طبقا لأعداد متزايدة من الأفراد الذين يتبنّون هذا الطرح ولكن هذا التقييم ليس بالوضوح الذي يدّعيه أولئك الذين يؤمنون به وخاصة الخصوم السياسيين والنقاد في وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية.لقد كان الانحدار النسبي لأمريكا موضوعا ساخنا قبل تولي ترامب مهمات منصبه بوقت طويل حيث بدأت هذه العملية عندما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعزز دورها عندما خرجت من الحرب الباردة على أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم بتجاوز قدراتها وإجهاد نفسها بشكل كبير وذلك من خلال توسيع انتشارها العسكري وتكثيف التزاماتها الاقتصادية والأمنية عالميا.لقد ظهر تجاوز أمريكا الإمبريالي لقدراتها لأول مرة إبان إدارة الرئيس رونالد ريجان حيث توسعت تلك الإدارة بشكل مكثف في إنفاقها العسكري ولقد وصل ذلك لمستويات الأزمة في فترة الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية للعراق سنة 2003 واحتلالها اللاحق لذلك البلد إبان حكم جورج بوش الابن حيث كانت تلك لحظة فارقة تسببت في ضرر لا يمكن إصلاحه للمكانة الدولية لأمريكا.أما خلال فترة حكم الرئيس باراك أوباما وتحت أنظاره، فلقد تمكنت الصين من توسيع نفوذها العالمي بشكل سريع وبما في ذلك استخدام القوة في تغيير الوضع القائم في بحر الصين الجنوبي (بدون تكبد أية تكاليف دولية) وعند تلك اللحظة، فقد أصبح الأمر جليا حيث انتهت حقبة الهيمنة الأمريكية.إن هذا يعني أننا لا يمكن أن نلوم ترامب على الانحدار النسبي لأمريكا فحسب، بل في واقع الأمر فإنه أيضا في وضع يؤهله لوقف ذلك الانحدار ورغم صعوبة توقع تصرفات ترامب فإن العديد من تحركاته الرئيسية في مجال السياسة الخارجية توحي بأن إدارته تسعى لتحقيق استراتيجية عظيمة وشاملة من أجل إعادة إحياء القوة العالمية لأمريكا.بادئ ذي بدء فإنه يبدو أن إدارة ترامب حريصة على الحد من تجاوز أمريكا الإمبريالي لقدراتها بما في ذلك تجنّب التدخل في الحروب البعيدة والطلب من الحلفاء دفع حصتهم العادلة فيما يتعلق بالدفاع، وفي واقع الأمر فإن العديد من أعضاء الناتو لا يعملون على الوفاء بالتزاماتهم المتعلقة بالإنفاق مما يجعل دافعي الضرائب الأمريكان يتحمّلون عمليا تكاليف دعم أمن هؤلاء الحلفاء.إن هذه الأفكار ليست بجديدة فحتى قبل أن يقرر ترامب أن يترشح للرئاسة، كان النقاد يجادلون بأن الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة لتطبيق سياسة تخفيض النفقات وذلك بالتقليل من التزاماتها الدولية بشكل كبير ونقل المزيد من أعبائها الدفاعية للحلفاء ولكن كان على الولايات المتحدة أن تنتظر زعيما مثل ترامب والذي ينظر إلى إدارة البلد مثل إدارة شركة تجارية ولديه الرغبة في السير على هذا الطريق وحتى لو تطلّب ذلك تقويض القيم التي عكست لفترة طويلة السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.إن تركيز ترامب على احتواء الصين -والتي وصفها مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي مؤخرا على أنها تحد أكبر من روسيا وحتى في مجال التجسس- يتناغم تماما مع تلك الاستراتيجية. لقد ساعد الرؤساء الأمريكان المتعاقبون، من ريتشارد نيكسون وصولا لأوباما، الصين في صعودها الاقتصادي. لكن ترامب يتعامل مع الصين ليس كشريك اقتصادي لأمريكا ولكن كعدو اقتصادي وحتى كما أشار لسان حال السلطات الصينية صحيفة تشاينا دايلي «الخصم الاستراتيجي الرئيسي لأمريكا».بشكل عام فإن الرسوم الجمركية لترامب تستهدف استعادة سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العلاقات الاقتصادية وذلك من خلال الحد من العجز التجاري المتزايد مع كل من الأصدقاء والأعداء على حد سواء وتوطين الأنشطة الاقتصادية مجددا وما يصاحب ذلك من وظائف ولكن لم يعد سرا القول بأن الرسوم الجمركية تستهدف الصين وهي بلد يعمل منذ فترة طويلة على تحدي أحكام التجارة الدولية والانخراط في ممارسات عدائية.في الوقت نفسه يعمل ترامب على التحقق من فشل الصين في اللحاق بركب الولايات المتحدة تقنيا وعلى وجه الخصوص تسعى إدارته إلى إحباط برنامج «صنع في الصين 2025» وهو برنامج العمل الذي أعلنته الحكومة الصينية سنة 2015 من أجل تأمين هيمنتها العالمية على عشر صناعات استراتيجية وذات تقنية عالية وذلك من الروبوتات وصولا إلى المركبات التي تعتمد على الطاقة البديلة. يبدو أن النشاطات الدبلوماسية لترامب تستهدف إحراز تقدم فيما يتعلّق بهذه الرؤية الاستراتيجية الأكبر لوقف الانحدار النسبي لأمريكا علما أنه حاول استرضاء القادة السلطويين وذلك من كيم يونج أون في كوريا الشمالية وصولا إلى فلاديمير بوتين في روسيا وذلك من أجل تقديم تنازلات وهي مقاربة حظيت بقدر كاف من الانتقادات ولكن مجاملات ترامب لم تترجم إلى تملق.على سبيل المثال ورغم الضجة التي أثيرت بسبب تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية سنة 2016 فإن الحقيقة هي أنه منذ تولي ترامب مهمات منصبه قامت الولايات المتحدة الأمريكية بطرد دبلوماسيين روس وأغلقت قنصلية روسية وفرضت ثلاث جولات من العقوبات على ذلك البلد وتهدد إدارته حاليا بتطبيق عقوبات تتجاوز نطاق البلد من أجل منع البلدان الأخرى من عمل صفقات دفاعية مهمة مع روسيا والتي تعتبر من المصدرين الرئيسيين للأسلحة.لم يجامل ترامب أي قائد أجنبي أكثر من الرئيس الصيني تشي جينبينج والذي وصفه بأنه «رائع» و«رجل مهذب عظيم» ولكن مرة أخرى عندما رفض تشي أن يستجيب لمطالب ترامب، لم يتردد الرئيس الأمريكي بالرد مستخدما التكتيكات الصينية بما في ذلك التغيير المفاجئ للمواقف التفاوضية والتصعيد غير المتوقع للتوترات التجارية.وحتى المقاربة المباشرة لترامب مع كوريا الشمالية تقوض الموقف الصيني وذلك من خلال تجاوزه. إن ترامب محق بالقول إن التوصل لنقلة نوعية في العلاقات الأمريكية - الكورية الشمالية هي أهم من تأمين الحصول على نزع تام للأسلحة النووية ولو استطاع ترامب احتواء كوريا الشمالية وهي الحليف العسكري الرسمي الوحيد للصين فإنه سيصار إلى إعادة تشكيل الوضع الجيوسياسي في شمال شرق آسيا وسيصبح الصعود المنعزل للصين أكثر وضوحا من أي وقت مضى.إن هناك الكثير من المشاكل في أساليب ترامب فأسلوبه التفاوضي المتكلف والذي يفتقد للذوق ولا يمكن توقعه بالإضافة إلى تجاهله على الطريقة الصينية للأعراف الدولية يزعزع العلاقات الدولية. إن المتاعب الداخلية مثل الاستقطاب السياسي والجمود التشريعي والذين عمل ترامب بشكل نشط على تعزيزهما تضعف الموقف الأمريكي دوليا.لكن لا أحد يُنكر أن مقاربة أمريكا لإبراز عضلاتها «أمريكا أولا» والتي تتضمن أحد أهم التعزيزات العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية تعكس رؤية استراتيجية تركز بشكل تام على التحقق من بقاء الولايات المتحدة الأمريكية أكثر قوة مقارنة بأي خصم في المستقبل المنظور.ربما الأهم من ذلك كله أن نهج الصفقات فيما يتعلق بالعلاقات الدولية والذي تعتمد عليه استراتيجيه ترامب من المرجح أن يستمر حتى بعد خروجه من الرئاسة بفترة طويلة فالأصدقاء والأعداء على حد سواء يجب أن يعتادوا على أمريكا تسعى لتحقيق مصالحها وتعمل ما بوسعها بغض النظر عن التكلفة لمنع تدهورها الحاد.أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز مقره نيودلهي لأبحاث السياسات وزميل في أكاديمية روبرت بوش في برلين

شارك الخبر على