أزمة القيادة الأخلاقية

ما يقرب من ٦ سنوات فى الشبيبة

نينا خروتشوفا«الرجل الحكيم يبني الجسور، أما الرجل الأحمق فيبني الجدران». كان هذا هو الرأي الذي انتشر على كل صفحات المقالات الافتتاحية في الصحف الصينية الأسبوع الفائت، عندما فرضت الولايات المتحدة رسوما جمركية بنسبة 25 % على ما قيمته نحو 50 بليون دولار من السلع الصينية. ومن المؤسف أن هذا النهج الانعزالي يمتد إلى ما هو أبعد من السياسة التجارية الأمريكية على نحو لا يتسم بالحماقة فحسب، بل هو أيضا غير أخلاقي -وهو يستنفد ما تبقى من أي سلطة أخلاقية كان الغرب يتمتع بها.عندما يتعلّق الأمر بالتجارة، جاء رد الصين فوريا بطبيعة الحال، ففرضت رسوما جمركية على ما قيمته 50 بليون دولار من الواردات من الولايات المتحدة، تماما كما ترد كندا، والاتحاد الأوروبي، والمكسيك، على التعريفات التي فرضتها الولايات المتحدة على الواردات من الصلب والألمنيوم. والواقع أن مثل هذه النزاعات من شأنها، إذا استمرت في التصاعد، أن تلحق الأذى بالناس في مختلف أنحاء العالَم وخاصة المستهلكين والشركات والعمال في الولايات المتحدة.الأسوأ من ذلك أن رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب أمر في الأشهر الأخيرة بانتهاج سياسة هجرة غير متسامحة على الإطلاق وتتعامل مع كل البالغين الذين يعبرون الحدود بطرق غير قانونية -وهي جنحة- على أنهم مجرمون عنيفون. وكان هذا يعني إحالة حتى طالبي اللجوء إلى المحاكمة، والأمر الأكثر إثارة للجدال، إبعاد أطفالهم عنهم واحتجازهم بشكل منفصل. وقد وضِع أكثر من 2300 قاصر في ملاجئ.وفي استسلام لضغوط سياسية، وقّع ترامب على أمر تنفيذي ينص على احتجاز الآباء والأطفال معا. لكن هذا الأمر في حد ذاته قد يكون غير قانوني، وبينما تنظر المحكمة الفيدرالية في هذه القضية، فسوف تستمر الملاحقات القضائية، ولا توجد خطة لإعادة شمل الأسر التي سبق تقسيمها.الواقع أن سياسة إدارة ترامب التي تقضي بالفصل بين أفراد الأسرة الواحدة قوبلت بانتقادات شديدة، بما في ذلك من جهات غير متوقعة، حتى أن لورا بوش -زوجة جورج دبليو بوش، الرئيس المسؤول عن إشعال حروب غير إنسانية في العراق وأفغانستان- أدانت هذه السياسة. وحسب زعمها فإن صور الأطفال المنفصلين «تذكرنا بشكل مخيف بمعسكرات الاعتقال التي أقيمت لاحتجاز المواطنين الأمريكيين والمقيمين من غير المواطنين من أصول يابانية خلال الحرب العالمية الثانية، والتي تُعَد الآن واحدة من أكثر الأحداث المشينة بشاعة في تاريخ الولايات المتحدة».حتى أن ميلينا زوجة ترامب ذاته قالت عبر متحدث رسمي إنها «تكره أن ترى» أطفالا منفصلين عن أسرهم. وحتى الصين -التي يُقال إنها تحتجز نحو 1500 سجين سياسي- أدلت بدلوها في هذا الأمر. وبمجرد أن جعلت أمريكا نفسها عُرضة للمحاضرات من قِبَل مثل هذه الدول، قرر ترامب سحب الولايات المتحدة من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.لكن الولايات المتحدة ليست وحدها في ملاحقة سياسات تخون القيم التي طالما اعتنقتها. ففي إيطاليا، بدأت الحكومة الشعبوية اليمينية الجديدة تستهدف السكان الغجر، وكان وزير الداخلية ماتيو سالفيني يصدر أوامره بإبعاد السفن التي تحمل المهاجرين الذين يجري إنقاذهم من الغرق.ومن جانبها، تبنّت المجر للتو ما يسمَّى «قانون امنعوا سوروس»، الذي يقضي بتجريم أي جهد يقوم به أي فرد أو منظمة غير حكومية لمساعدة مهاجر غير شرعي في طلب اللجوء. وقد سمِّي هذا القانون على اسم جورج سوروس، رجل المال المجري المولد ومؤسس مؤسسات المجتمع المفتوح، الذي يتهمه رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان على نحو طائش بتشجيع الهجرة الجماعية لإضعاف الدول الأوروبية.كل هذا يسلط الضوء على أزمة عميقة في القيادة الأخلاقية والتي قد تحدث من الضرر قدرا لا يقل عن الضرر الذي قد تحدثه الهجرة الخارجة عن السيطرة أو حتى الحرب التجارية. فبالإضافة إلى السياسات القاسية التي تعمل على تمكينها، تهدد هذه الأزمة بتشجيع الحكومات كتلك في الصين وروسيا؛ لأنها تجعلها تبدو معقولة، بل وحتى جديرة بالثقة.وهذا ما يحدث بالفعل. ففي هذا العام، عاد منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي، الذي خسر قدرا كبيرا من نفوذه بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، إلى مزاولة أعماله، حيث ترأس الرئيس فلاديمير بوتين المناقشات التي شملت أمثال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، ورئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد.ولتأمين مشاركة هذه الشخصيات، لم يكن بوتين في احتياج إلى الاعتراف بأي أخطاء أو العودة إلى الالتزام بالديمقراطية أو حكم القانون. بل على العكس من ذلك، منذ ذلك الحدث، بدأ أوليج سينتسوف، صانع الأفلام الأوكراني الذي جرى احتجازه أثناء ضم شبه جزيرة القرم، إضرابا عن الطعام باسم 64 سجينا سياسيا أوكرانيا محتجزين حاليا في روسيا.ولكن في حين تصدر الحكومات الغربية بيانات تنتقد روسيا -بسبب احتجاز سينتسوف ونحو 150 سجينا دينيا وسياسيا آخرين- فإن التزامها بعزل روسيا بوتين بسبب سلوكها يتضاءل بشكل واضح. أضف إلى هذا السياسات الداخلية غير الأخلاقية، فتصبح «المطالبات الغربية بالقيادة الأخلاقية» جوفاء على نحو متزايد. الآن يستطيع بوتين ونظيره الصيني شي جين بينج بقدر غير مسبوق من الحرية تجاهل الانتقادات الغربية، بل وأيضا الحديث بتبجح عن فوائد بناء الجسور. وهذا ليس مجرد مجاز: ففي ظل قيادة بوتين، قامت روسيا ببناء ستة جسور على الأقل، بما في ذلك الجسر الذي يربط شبه جزيرة القرم بالبر الرئيسي في روسيا. وقد تبدو مثل هذه المشاريع، كتلك التي جرى تنفيذها قبل بطولة كأس العالَم، جيّدة. أما الإضراب عن الطعام فلا يبدو كذلك. ومن حسن حظ بوتين، في عالَم حيث تقوض النزعة القومية سلطة القانون الدولي والمؤسسات متعددة الأطراف، تمثل الأخلاق أهمية أكبر من أي وقت مضى. ونسبة إلى أمثال ترامب، لا يبدو بوتين سيئا على الإطلاق.بيد أننا لا نستطيع أن نلقي بالمسؤولية الكاملة عن تآكل المُثل الديمقراطية على عاتق ترامب وحده: فسجل حقوق الإنسان في أمريكا بعيد كل البعد عن كونه بلا شائبة. في عهد الرئيس بِل كلينتون، كانت الولايات المتحدة واحدة من بين سبع دول فقط صوتت ضد إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، التي رفض كل رئيس أمريكي لاحق الانضمام إليها. ثم أتت حرب بوش النزوية الخرقاء على الإرهاب، التي تلاها تدخل باراك أوباما العسكري في ليبيا، والصومال، واليمن، في تحد للقانون الدولي. ومن الواضح أن ترامب ليس على الإطلاق أول رئيس أمريكي ينتهك الاتفاقيات أو الهياكل العالمية.وأوروبا أيضا ليست فوق اللوم. فكما أشار بوتين، تعكس استجابة الغرب لضم روسيا لشبه جزيرة القرم شيئا من الكيل بمكيالين، فقد أيّد الاتحاد الأوروبي، وكذا الولايات المتحدة، إعلان كوسوفو الاستقلال عن صربيا في العام 2008.بعد الحرب العالمية الثانية، أعاد العالَم -بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا- تقييم المعايير والمؤسسات الدولية، وأنشأ ركائز النظام العالمي القائم على القواعد اليوم. ونحن اليوم في احتياج إلى إعادة تقييم مماثلة، والتي ربما تتشكل بفِعل أزمتين رئيسيتين في عصرنا: الهجرة والإرهاب الدولي. لكن نهج «أمريكا أولا» الذي ينتهجه ترامب والذي يخدم مصالح ذاتية ليس الطريق إلى الأمام. ولا يجوز لنا أن نأتمن روسيا أو الصين على قضية الدفاع عن حقوق الإنسان. ولكن في وقت حيث يفتقر الاتحاد الأوروبي إلى القدر اللازم من الثقة والتماسك لاستعادة قيمة ومناصرتها على مستوى العالم، فمن ذا الذي قد يقوم بهذه المهمة؟أستاذة في الشؤون الدولية ومساعدة العميد للشؤونالأكاديمية في ذا نيو سكول وزميلة بارزة في معهد سياسات العالم

شارك الخبر على