عبد الله محمود.. موظف قدّمه يوسف شاهين للسينما وأنهى السرطان مسيرته

ما يقرب من ٦ سنوات فى التحرير

عبد الله محمود.. بدأ إبداعه وحبه للفن وهو لا يزال طفلًا، دراسته كادت تُنهي حلمه، إلا أنه أصرّ عليه حتى بعد توظيفه بوزارة الزراعة، راهن عليه يوسف شاهين، وقدّمه للسينما من خلال فيلميه "إسكندرية ليه؟" و"حدوتة مصرية". الفتى الأسمر صاحب الموهبة الوافرة والملامح السمراء، مع وسامة تليق بـ"جان" سينما قادم بقوة، إلا أن القدر لم يُمهله كثيرًا، كان لديه طموحات فنية كبيرة، وكان يرى أن أمامه الكثير ليُقدمه للفن، إلا أنه رحل في الأربعين من عمره، متأثرًا بمرض السرطان.

النشأة والمشوار الفني
ولد في 6 ديسمبر عام 1959 بالقاهرة، بدأ مجال التمثيل في صغره مع صديقي عمره محسن محيي الدين وأحمد سلامة، من خلال المشاركة في المسرحيات المدرسية وبرامج الأطفال، تخرج في معهد التعاون الزراعي 1980، وعمل موظفا في وزارة الزراعة، لكن حبه للفن دفعه إلى الالتحاق بعدها بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وبدأ مسيرته الفنية من خلال مسلسل "البوسطجي" في منتصف سبعينيات القرن الماضي.

وتشاء الأقدار عقب ذلك، أن يُقدّمه صديق عمره محسن محيي الدين ليوسف شاهين ليُشركه بدوره في فيلمه الهام "إسكندرية ليه؟" (1978)، ثم فيلم "حدوتة مصرية" (1982)، وكان كافيًا لعبد الله أن يظهر في فيلمين متتاليين للمخرج العالمي لتتجه إليه الأنظار، حيث تلقفه بعدها المخرج الراحل عاطف الطيب، وأسند إليه أحد الأدوار المهمة في فيلم "سواق الأوتوبيس"، وتوالت أعماله المهمة مع محمد خان في "الحريف" و"عودة مواطن"، وخيري بشارة وصلاح أبو سيف وغيرهم من كبار المخرجين.

توالت أعماله السينمائية، وأبرزها "الطوق والأسورة" (1986) مع شريهان وفردوس عبد الحميد، و"طالع النخل" (1988) للمخرج محمد فاضل مع صلاح السعدني، و"الاحتياط واجب - الإمبراطور" (1983 - 1990)  أمام أحمد زكي، و"حنفي الأبهة - شمس الزناتي" (1990 - 1991) أمام عادل إمام، و"المواطن مصري" (1991) للمخرج الراحل صلاح أبو سيف، والذي وقف فيه أمام عمر الشريف، وقدّم أحد أهم أدواره "مصري عبد الموجود"، و"عرق البلح" (1999) للمخرج رضوان الكاشف مع شريهان وعبلة كامل.

ويظل أشهر أدواره في فيلم "الطريق إلى إيلات" (1993) الذي أدى خلاله شخصية رقيب بحري مرسي الزناتي، أحد الضفادع البشرية المصرية، التي هاجمت ميناء إيلات الحربي الإسرائيلي خلال فترة حرب الاستنزاف، إلا أن أفضل أعماله هو "عفاريت الأسفلت" (1996) مع النجم محمود حميدة، ونال عنه ثلاث جوائز سينمائية محلية ودولية كأفضل ممثل.

وبالتوازي مع ذلك شارك في عدد كبير من المسلسلات التليفزيونية، وأهمها "أبواب المدينة، الأبرياء، ذئاب الجبل"، غير أن تألقًا غير عادي كان قد صادف عبد الله محمود، الملقب باسم "عصفور النار"، نظرًا لهذا الاسم الذي ارتبط به فنيًا في مسلسل يحمل نفس الاسم مع القدير الراحل محمود مرسي وفردوس عبد الحميد، ومن تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج محمد فاضل، وكان أول أجر حصل عليه من التليفزيون أقل من جنيه مصري، كما شارك في العديد من الأعمال المسرحية، ومن أبرزها "حضرات السادة العيال، وعش العميان، باب التوفيق، دليلة وشربات وقصة الحي الغربي".

الزواج
كان عبد الله والسيناريست حنان البنبي، زميلين في المعهد العالي للفنون المسرحية، حينها بدأ يتابعها بنظراته عن بُعد، دون أي حديث بينهما، رغم دراسته التمثيل والإخراج، وتخصصها هي بشعبة النقد والدراما، وفي بعض المحاضرات المشتركة بينهما يترك عبد الله كل ما حوله، ويستمر في النظر إلى حنان، ومع قرب أداء طلاب المعهد الامتحانات يتوجه إليها محمود، ويتحدث لها للمرة الأولى، قائلًا: "تتجوزيني؟".

بسماع حنان هذه العبارة انتابها الفرح من داخلها، لكنها قابلت الجملة على أرض الواقع بالنظر إليه ثم رحلت عنه، وتروي عن تلك اللحظة في لقاء ببرنامج "حياتنا" (فبراير 2017): "أنا زقططت من جوه بس بصيت من فوق لتحت وكأني بقول إيه ده مجنون ولا إيه.. ومشيت، ووقتها هو كان ظهر في أفلام منها (حدوتة مصرية، إسكندرية ليه، أبواب المدينة)، ورغم تلك الأعمال مكنتش أعرف اسمه".

عقب ذلك تقرب الثنائي لبعضهما، وتقدّم للزواج منها، ورغم ذلك عارض أهلها الزواج، بحجة أنه ليس موظفًا، ولا يملك دخلًا ثابتًا، تعرضت حنان لأزمة نفسية لتُجبر أهلها على الموافقة على الزواج منه، وتزوجا خلال تصوير فيلم "الطوق والأسورة"، ليقضيا معًا 20 عامًا حتى رحيله، أنجبا خلالها ولدين، أحدهما هو الفنان الشاب أحمد عبد الله محمود.

أمنيات لم تتحقق
حينما طرقت بابه البطولة المطلقة لأول مرة من خلال فيلم "واحد كابوتشينو" آخر أفلامه، الذي يروي قصة كفاحه، انسحب منتج الفيلم، حينما رأى أنه فنان غير تجاري، فاتخذ عبد الله محمود قرارًا بتكملة الفيلم وإنتاجه، ويقول نجله أحمد عبد الله عن ذلك في حوار مع "MBC": "قال لنا هذا حلمي وأموالي، وأصّر على استكمال العمل"، وفي آخر الفيلم بدأ الشعور بمرضه، ولم يكن محظوظًا بمشاهدة فيلمه الأخير وبطولته الأولى في دور العرض.

انتقاء الأعمال
كان يُعرف عنه انتقائه لأعماله بعناية، فخلال ربع قرن من حياته الفنية لم تتجاوز أفلامه الـ17 عملًا، وظلّت بعض الأفلام القريبة من قلبه، وهي "الطريق إلى إيلات" و"شمس الزناتي" و"المواطن مصري" و"عصفور النار" و"طالع النخل"، كما كان يحب الأعمال التي جمعته بالفنان عادل إمام، وهو ما ذكره الزعيم أيضًا لنجله أحمد عبد الله محمود، في لقاء جمعه به، وقال له إنه يحب الأعمال التي جمعته بوالده، وكان متبنيا الفنان محمد سعد.

الالتزام الديني
كان من أكثر الفنانين التزامًا في الوسط الفني، ويكاد ينفرد بابتعاده دومًا عن الشائعات والخلافات الفنية، وهو ما جعله يستحق دوما حب الجميع وتقديرهم، وكان يحب الحياة، ويرغب في فعل الكثير من الأشياء، لكن العمر لم يمهله ذلك، ويقول نجله: "أكثر شيء يقال عنه بعد مماته هو صفات الجدعنة، وهو ما وضح عندما كنت أصور فيلمًا عن حياته، وقابلت الفنان عمرو عبد الجليل الذي قال لي إن والدك لن تجد مثله مرة أخرى".

السنوات الأخيرة
آخر سنوات عبد الله محمود، لم تكن ممتلئة بالعمل وحده، ولكن كان يقضيها في السفر إلى الأراضي المقدسة، لأداء العمرة والحج، فضلًا عن أداء الصلوات في موعدها وقيام الليل وتلاوة القرآن الكريم، يقول نجله: "كان عصبيًا جدًا خاصة في شهر رمضان، وكنت أنا وشقيقي نتلاشاه خلال فترة الصيام، وكان من طقوسه الصلاة وقراءة القرآن قبل الإفطار بساعة".

كان يتمنى محمود أيضًا أن يُجسد دور المسلم الصحيح، حسبما روى نجله، ويقول: "كأنه ببعد نظره، قرأ المشهد والمستقبل الذي يمثّل افتراءات على دين الإسلام، وأحب أن يساعد على تغيير الصورة النمطية في الغرب عنه"، وكان متخذًا قرارًا بشراء قطعة أرض وزراعتها، نظرًا لحبه الزراعة، لكن الوقت لم يسعفه.

المرض والرحيل
أُصيب عبد الله محمود بمرض سرطان المخ، وظل يعاني منه عدة أشهر، وأراد الابتعاد عن الفن، لكنه لم يستطع ألا يُكمل عمله الأخير، وأنفق عليه أكثر من مليوني جنيه، حتى إنه اضطر إلى العلاج على نفقة الدولة، وقام الفنان أحمد زكي بالمساهمة في علاجه، على الرغم من أنه كان يُعالج هو الآخر وقتها من نفس المرض، ورحل قبله، وحرص عبد الله على حضور جنازته.

وفي ظل تلك الأزمات والأيام الأخيرة كتب ابنه أحمد وغنى أغنية "أطيب قلب" لمساندة والده في محنته، وفي أواخر أيامه، وبينما هو في معهد ناصر للأورام، الذي قضى فيه آخر 6 أشهر من حياته، كان يدخل في غيبوبة باستمرار، وكانت أسرته إلى جانبه تتلو القرآن الكريم، وكان ينتبه عند أي خطأ، وينهض ليصححه، حسب نجله، ولكن المرض كان قد تمكن منه، ليودع الحياة في 9 يونيو عام 2005، عن عمر يناهز 40 عامًا.

شارك الخبر على