"الدون الهادئ".. بلا رقابة!

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

موسكو – عبدالله حبة
صدرت عن معهد غوركي للأدب العالمي بموسكو طبعة جديدة بالروسية من رواية ميخائيل شولوخوف " الدون الهادئ" التي تنشر لأول مرة حسب رأي الناشرين ، كما كتبها المؤلف الروسي ونشرها في عام 1928، والمحفوظة في الأرشيفات بإعتبارها " النسخة العلمية" . ويستطيع القارئ المعاصر أن يتعرف على رائعة الأدب الروسي هذه بدون أي تدخل من أجهزة الرقابة السوفيتية التي كانت في مختلف الفترات تصدر طبعات يتم فيها إما حذف أو إضافة صفحات لا علاقة لها بالنص الأصلي وتبعاً لمتطلبات الظروف السياسية. ويمكن القول إن جميع المؤلفات الصادرة في الفترة السوفيتية قد تعرضت الى التعديل والحذف ، ومنها أعمال مكسيم غوركي والكسي تولستوي وميخائيل بولكاكوف وغيرهم. وكان كل كاتب يضطر تحت ضغوط الرقابة ولأسباب إيديولوجية الى إدخال شخصيات ومشاهد لا علاقة بها بالنص الأصلي من أجل إبراز البطل الإيجابي"الشيوعي" أو بطولة " الشيوعي" في المواقف الحرجة.
إن علاقة المبدع بالرقابة كانت في مختلف الأزمان تجلب الضرر الى أي عمل أدبي. وفي العراق كان المؤلفون والفنانون يعانون الأمرين من الرقيب في وزارة الداخلية. ولا زلت أتذكر كيف كان المرحوم يوسف العاني يأتي حاملاً مسرحياته وقد شطبت فيها بالقلم الأحمر صفحات كاملة. كما أذكر كيف منع الرقيب ديوان حسين مردان قصائد عارية لأن الرقيب إعتبر العنوان مخلا بالآداب ، أما المخرج المسرحي جعفر السعدي فقد جاء الى زملائه في الفرقة الشعبية حاملاً نسخة مسرحية غوغول "المفتش العام " وقد دون على صفحتها الأولى " حكم" الرقيب بأنها هدامة لأن غوغول " شيوعي معروف". وقصة " الدون الهادئ" مع الرقابة الحزبية تبدو وكأنها مسرحية هزلية . فقد نشرت الرواية باللغة الروسية وحين كان الكاتب ما زال على قيد الحياة 342 مرة وصدرت بأكثر من 20 مليون نسخة.علماً إن ستالين قرأ الرواية وأعطى الموافقة على طبعها بالرغم من أن الرقابة لم توافق في البداية على نشرها لأن بطل الرواية ميليخوف حارب الى جانب البيض وضد السلطة السوفيتية ولم ينضم الى "الحمر" حتى نهاية الرواية . وكانت كل طبعة جديدة تختلف بحسب الظروف السياسية في البلاد ورغم أنف الكاتب الذي ما كان بوسعه سوى الإحتجاج على إفساد فكرة روايته الأصلية بالحذف والتعديل والإضافة لإعتبارات إيديولوجية والتي كانت تمليها هيئة الرقابة السوفيتية" جلاف ليت" وليست دور النشر. وكان شولوخوف يعارض ثم يلتزم الصمت على طغيان هذه الهيئة لأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي ووجب عليه الإلتزام بالانضباط الحزبي وبتعليمات الحزب. وهكذا جرى في طبعة عام 1933 حذف كل ما يتعلق بليف تروتسكي في الرواية .وفي طبعة عام 1935 حذفت من الرواية جميع الألفاظ التي إعتبرتها الرقابة نابية أو مبتذلة في سياق الحملة من أجل الحفاظ على نقاوة اللغة الروسية السائدة آنذاك. وفي طبعة عام 1936 حذفت أسماء جميع الشخصيات السياسية المعارضة لستالين. بينما أدخل في النص في طبعة عام 1938 تعديل حول أهمية دور ستالين في إلحاق الهزيمة بجيش المتطوعين (الحرس الأبيض)في الجبهة الجنوبية في أيام الحرب الأهلية في روسيا (1918-1920). وبقي هذا التعديل في طبعات الرواية حتى عام 1956 حين أدان نيكيتا خروشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي " عبادة الفرد" المتمثلة بشخص ستالين. وهكذا صدرت الطبعة الجديدة للرواية في عام 1956 خالية من إسم ستالين. كما طلب الرقيب لإعتبارات تفادي الحزازات القومية حذف بعض الكلمات التي تعتبر مسيئة الى أبناء القوميات ومثالها كلمة "خوخول" الروسية الشائعة حتى الآن في الكلام الدارج لدى التحدث عن الأوكرانيين وأستبدلت الكلمة ب" الأوكراني". ومعروف أن النسخة الخطية لرواية " الدون الهادئ" قد فقدت كلها تقريبا خلال فترة طويلة بعد احتراق جميع أرشيف شولوخوف في أثناء الحرب العالمية الثانية حين قصفت الطائرات الألمانية بيته في بلدة فيوشينسكايا، ولقيت والدته مصرعها فيه. وكانت قد ترددت الإشاعات بأن مؤلف " الدون الهادئ" شخص آخر. وقال البعض إن شولوخوف كان صغيراً في السن (23 عاما) حينما كتب "الدون الهادئ"بينما تضمنت الرواية ما لا يستطيع كتابته سوى الرجل الذي يمتلك خبرة كبيرة في الحياة ومعرفة بدقائق الأمور في حياة القوزاق وأحداث الحرب الأهلية ، زد على ذلك إنها كتبت بإسلوب أدبي رفيع قياساً الى مجموعته القصصية الأولى " أقاصيص الدون" التي نشرها قبل ذلك . وبقيت 140 صفحة فقط من المجلدين الثالث والرابع كتبت بخط يد شولوخوف نفسه وتحفظ الآن في معهد الأدب الروسي(بيت بوشكين) في سانت-بطرسبورغ. كما توجد نسخ مطبوعة على الآلة الكاتبة في أرشيف الدولة للآداب والفنون وأرشيف متحف الأدب بموسكو. وتحفظ في الأرشيف رسائل شولوخوف التي يشير فيها الى التعديلات والأماكن المحذوفة في روايته. وعمد خبراء النصوص الى مقارنة مختلف الإصدارات ولاسيما التي نشرت في البداية في مجلة "اكتوبر" والطبعة الأخيرة من المؤلفات الكاملة التي نشرت في فترة 1985-1986 تحت إشراف الكاتب. ويطلق الناشرون على الطبعة الجديدة لرواية " الدون الهادئ " تسمية " طبعة علمية" لإنها تعتمد على دراسات خبراء النصوص الذين عملوا عدة سنوات في الأرشيفات من أجل إعطاء صورة تقريبية عن الأصل. ولهذا زودت الطبعة بشروح كثيرة وبمراجع أرشيفية.

شارك الخبر على