قضية للمناقشة إنجاز دون رؤية

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

فريدة النقاش
تثور عند كل تغيير وزاري المناقشة التقليدية حول صلاحيات الوزير ، إن كان مكلفاً بتقديم سياسات ورؤى وبرامج تنفيذية لها ، أم هو مكلف فقط بالتفاصيل والإنجازات العملية لما يخططه صناع السياسة الحقيقيون ، وكان وزير الزراعة الأسبق " يوسف والي " قد أطلق وصفاً بليغاً ودقيقاً حين قال عن الوزراء : نحن جميعا سكرتارية للرئيس. وطالما سأل المثقفون الزميل " حلمي النمنم" حين تولى وزارة الثقافة عن رؤيته وخطته للنهوض بالثقافة ، فكانت إجاباته دائما عامة وإن حددت في بعض الأحيان طبيعة القيود التي تكبل حركة الوزير ، أي وزير ، وعلى رأسها الميزانية التي يذهب الجزء الأكبر منها للأجور ، وبذا يحول فقر الموارد بشكل إضافي بين وزير الثقافة وبين تحقيق الطموحات التي تنهض بالثقافة من وجهة نظره ، حتى لو بقي الأمر كما هو عليه الآن معلقا فحسب ، بالتفاصيل والإنجازات العملية دون الرؤى والخطط التي لا شأن للوزير بها . وتفاءل مثقفون ومواطنون ـ وأنا منهم ـ بتولي الدكتورة الفنانة " إيناس عبد الدايم" موقع وزير الثقافة ، نظراً لجهودها الدائبة من أجل الوصول بالإنتاج الثقافي والفني إلى الجماهير البسيطة ، والفقيرة ، وهو ما كان يتطلع إليه أيضا " حلمي النمنم" . وكنا قد شهدنا في السنوات الماضية نماذج كثيرة لوزراء لم تهدأ حركتهم من أجل الوصول بالخدمات التي تقدمها وزاراتهم للجمهور الواسع ، ومع ذلك بقي سؤال السياسات العامة التي يجد الوزير نفسه بعيداً تماماً عن المشاركة في وضعها ، فإذا كانت لدى الوزيرة أو الوزير تصورات ورؤى وأفكار وخارطة لترتيب أولويات موازنة طالما اشتكت الإدارة من ضعفها ، فإنه غالباً ما يكتفي بهذه الأفكار لنفسه لأنه ليس مكلفاً بالمشاركة في وضع السياسات . ولعلني بذلك أكون قد وصفت بالضبط وضع الدول التي تسقط في قبضة المؤسسات المالية الدولية من أجل الحصول على قروض ، لأنه سيكون عليها في هذه الحالة أن تنفذ" روشتة" لم تجر كتابتها في الدوائر السياسية للبلد المعني ، ولا استجابة لمصالحه واحتياجاته لأنه أصلاً برنامج مخطط لخدمة مصالح الدول المتنفذة في هذه المؤسسات المالية التي تكاد تهيمن على الاقتصاد العالمي كله . فإذا عدنا إلى موضوع السياسات الثقافية ، وتابعنا الجهود الشريفة التي تبذلها وزيرة الثقافة الدكتورة " إيناس عبد الدايم " سوف نجد أنفسنا أمام سؤالين كبيرين: أولهما هو حقيقة الرؤية الثقافية التي تتبناها الدولة المصرية على اعتبار أن الوزيرة هي التي تجسد هذه الرؤية في عملها ، أما السؤال الثاني فيتعلق بالحريات العامة والخاصة التي يظل توفرها شرطا أساسياً للإبداع الثقافي وجسراً للنهوض بالثقافة ، وكان الدستور المصري قد خصص باباً كاملاً لقضية الحريات ، ولكن لأن الدستور لم يطبق ، ولم يصدر مجلس النواب القوانين المنظمة لكي يمكن تطبيق الدستور ، فلا تزال الانتهاكات للحريات وحقوق الإنسان التي كانت أحد الأسباب الرئيسة لإنفجار موجات الثورة قائمة . ولأن الوزراء ليسوا معنيين بوضع السياسات العامة فلم تشغلهم مسألة القيود على الحريات ، ولم يكن أحد منهم طرفا أبداً في الحركة المطالبة بإسقاط القوانين المقيدة للحريات ، أو الشروع في تطبيق الدستور الذي استلهمت لجنة الخمسين في كتابته وتحصينه شعارات الموجات المتعاقبة للثورة ، خاصة في باب الحريات . سوف تكون " إيناس عبد الدايم " إذن مضطرة لإعادة إنتاج ما هو قائم ، وماكان قائما من قبل: أي مواصلة الجهد للوصول بالإنتاج الثقافي إلى الجماهير العريضة والفقيرة ، ولكن دون رؤية متكاملة لأهداف الثقافة ، وقبل ذلك أدوارها ، والمتطلبات السياسية لتتفتح زهورها ، وليجد المبدعون في كل المجالات مناخاً ملائماً لتطوير إنتاجهم ، دون خوف او قلق دون قضايا حسبة ، أو إتهام بإزدراء الأديان ، أو التخطيط لقلب نظام الحكم وتكدير السلم العام .وسوف يكون من الصعب أن تلعب الثقافة في ظل هذه الظروف ، الأدوار المنوطة بها في القضايا الكبرى التي تواجهها البلاد من تجديد الفكر الديني ، لتطوير نظام التعليم ، والتقدم في ميدان البحث العلمي ، وإطلاق مواهب المصريين ، وهم معرضون في ظل الاختيارات السياسية القائمة وترتيب الأولويات الذي هو بدوره سياسة ، معرضون لمزيد من الإفقار مادياً ومعنوياً ، وفي ظل هذه الأوضاع ينحرف دور الثقافة في إتجاه الترفيه لا التنوير ولا النقد . وقبل ثمانين عاماً كتب " طه حسين " كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " ربط فيه هذا المستقبل عضوياً بالتعليم ، ومازال التعليم في مصر بانقسامه ، وبدخول المدارس والجامعات الأجنبية ، فيه يشكل عبئا على الثقافة لا قاطرة لها . تعلمنا التجربة الإنسانية حتى قبل الكتابات النظرية العميقة ، أن العمل دون رؤية ومهما كان مخلصاً هو كارثة ، وهذا هو بالضبط ما يحدث لنا في ميدان الثقافة على الأقل ، ولذا سوف نرى باستمرار جهوداً مضنية من الوزيرات والوزراء الذين تشبعوا جميعاً بفكرة أن الإنجاز هو المهم ، وهم يبثون خطاب الإنجاز هذا دون رؤية، وتبقى الدائرة تدور كإنما نحرث في البحر ، ويتساءل الناس لماذا الحصاد قليل رغم كل هذا الجهد ؟ وعلينا جميعا أن نشارك في الإجابة عن هذا السؤال.

شارك الخبر على