الأزمة أعمق من التأليف ومسألة النزوح... إنه اصطفاف سعوديّ جديد والحريري الحلقة الأضعف فيه (بقلم جورج عبيد)

ما يقرب من ٦ سنوات فى تيار

بقلم جورج عبيد-
أكّدت التراكمات السياسيّة المتدحرجة بلبنان بالعناوين المثارة بأنّ الأزمة أعمق من نزوح سوريّ يستهلك وتأليف حكوميّ قيد المماطلة والمراوغة. إنها أزمة صراع لا يزال يحيط بلبنان ويمساب إليه تدريجيًّا من دون عناء كثير أو كبير. يخطئ من يعتبر بأنّ لبنان محجوب عن الصراع السعوديّ-الإيرانيّ، ويخطئ أيضًا من يظنّ بأنّ تعريب الأوراق وترتيبها لا ينتمي إلى واقعيّة الصراع وتدرّجه واستمرار انشطاره في عدد من الدول كالبحرين والعراق واليمن ومسألة القدس، في حين أنّه أنّه باتت وطأته خفيفة ومداه ضيّقًا في الساحة السوريّة من بعدما أثبت الجيش السوريّ وحلفاؤه قدرته على تطهير الميدان وتثبيت الانتصار في حوالي 85% من المساحة السوريّة.
يهتمّ السعوديّون بأن يبقى لبنان نافذتهم في لبنان، ففيها المطلّ ومنها يتمّ التموضع إذا سمح لهم. وفي تقييم مبدى من جهات كثيرة، رأى السعوديون أن ثمّة أوراقًا يمكن استثمارها من جديد في الداخل اللبنانيّ، بهدف تطويق العهد برئاسة العماد ميشال عون، وتطويق المقاومة مع أمين حزب الله السيد حسن نصرالله. هذا التطويق ليس حديث العهد بل هو فعل قديم مورس منذ ما قبل الرئاسة وما أوصل إلى نتائج ملموسة بل أوصل إلى نتائج معاكسة للتوق السعوديّ، ومورس مع رئيس الحكومة سعد الحريري باستدعائه القسريّ واحتجازه فانكسرت الإرادة بالاستقالة وكان الفضل بذلك لرئيس الجمهورية والسيد حسن نصرالله بسعي كبير أيضًا من الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون. حاولوا بدورهم عرقلة الانتخابات النيابيّة بدءًا بعرقلة إنتاج قانون ناضج وسليم يؤمّن التوازن الطائفيّ في لبنان، فباءت محالاتهم بالفشل الذريع، حاولوا منع قيام الانتخابات النيابيّة ليتبيّن بأن النتائج وليس منا قال قاسم سليماني بل كما ظهر للواقع على الأرض لصالح تحالف العهد والمقاومة وتحالف التيار الوطنيّ الحر وحزب الله، من دون التنكّر للفوز الملموس للقوات اللبنانيّة.
مشكلة السعوديين مع لبنان بأنّهم لم يلمسوا لمس اليد بأنّ انتصار سوريا في حربها بصورة واضحة وهي الجارة الأقرب للبنان وانتصار الرئيس بشار الأسد على وجه التحديد، غيّر مجرى تاريخ الأحداث بجوهرها ومعانيها وعناوينها. ذلك أن انكسار القوى المتطرفة والتكفيريّة في المدى السوريّ-العراقيّ-اللبنانيّ، أعاد للمنطقة توازنها أو هي على طريق استعادته رويدًا رويدًا. إنطلقت السعوديّة من واقعية النتائج، لتسلك سلوك المناورات ما بين لبنان والعراق ، ووضعت نفسها في مواجهة جديدة مع إيران في اللحظة التي شجعت فيها مقتضى الصدر في العراق على المواجهة مع إيران انتخابيًّا، ظنّت أن أنتصار الصدر في العراق سيوفّر لها مساحة جيدة للتموضع ومحاولة استعادة الأوراق المفقودة للعب على طاولة التفاوض العراقيّ، لترى نفسها داخل مأزق يتّسع تدريجيًّا سيّما أن الطائفة الشيعيّة في العراق غير مستعدة وهي الأكثرية للتراجع من بعد المراحل التي مرّوا بها وأثبتوا انتصارهم في الحرب على التكفيريين. وفي لبنان، يحاولون التأسيس من جديد لحركة سياسيّة بعيد الانتخابات النيابية بنتائجها الواضحة، ركناها الأساسيّان القوات اللبنانيّة والحزب التقدميّ الاشتراكيّ. لم يعد سعد الحريري على الرغم من محاولات التقارب التي أظهرها غير مرّة مع القيادة السعوديّة مداها الكبير، وبحسب تقويم بعض المصادر فإنّ سعدًا هو الحلقة الأضعف في هذا الاصطفاف السياسيّ اللبنانيّ الموصول بالواقع الخارجيّ، لم يعد يملك القدرة على الحراك الواسع ضمن دائرته، في حين أن القدرة باتت واسعة عند آخرين في طائفته سواء بالقبول أو الرفض أو الفرض. ولا بدّ من ملاحظة واضحة وشديدة، وهي أن سعد الحريري مدين لتثبيت التسوية الرئاسيّة الأولى للسوريين وحزب الله لأسباب عديدة ومعروفة، وفي أزمته الأخيرة مع السعوديين، فإنه بدوره مدين بدوره للسوريين وحزب الله.
يعرف السعوديون ذلك، ولهذا عملوا على التلاقي مع وليد جنبلاط من بعد جفاء طويل على خلفية الملاحظات التي كان قد قدمها في مراحل سابقًا عن السلوك السعوديّ في المنطقة بأسرها. نجح اللقاء معه وأسس لجبهة جديدة في لبنان وتمّ دعمه ماليًا وإعادة الاعتبار للنائب نعمة طعمة. تمّ ذلك مع تكريس القوات اللبنانية في المعادلة السياسيّة بالإطار المناوئ للعهد. وأبلغ سعد وهو الذي لم ير وليّ العهد، بضرورة ضمّ كتلة القوات اللبنانيّة إلى الحكومة بحجم أربعة وزراء، وضمّ كتلة وليد جنبلاط بحجم ثلاثة وزراء. وكأنّ المشهد يتجه إلى جبهة سياسيّة ترعاها السعودية تبدأ من الحكومة وتتسع رقعتها مقابل تحالف التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، ومقابل التحالف بين العهد والمقاومة.
تمّ إحراج سعد الحريري، بهذا التوجّه الجديد، وهو الحلقة الأضعف في الواقع السياسيّ، وقد تراجعت قوته بفعل تراجع عدد النواب في كتلته، وهو المتكئ على قاعدة تحالفه مع التيار الوطنيّ الحرّ، وقد حاول التوليف بين تحالفه مع العهد والتيار وعلاقته مع المملكة، فإذ به امام نقيضين لا يؤلفّان حالة واحدة ورؤية واحدة، علمًا بأنّ الرئيس عون منفتح على علاقات راقية ومتينة مع معظم الدول العربيّة وقد دعا غير مرّة إلى حوار عربيّ-عربيّ ينهي الحروب فيما بينهم وينهي الحروب المذهبيّة والمتسربلة بحلّة قوميّة. لقد اتضح بأنّ السعودية تتعامل مع الحريري باستخفاف فيما هي تتعاطى مع وليد جنبلاط وسمير جعجع، على أساس جديّ وتكوينيّ. غير أنّه فات السعوديّة بأن وليد جنبلاط بدوره زئبقيّ بطبعه ولا يعوّل عليه كثيرًا، ولا شكّ بأنّ التعاطي معه مستلهم لحقد مشترك للنظام السوريّ ولكنّه يغرّد في مكان غربة.يتمحور الاصطفاف الجديد ضمن عنوانين:1-النازحون السوريون.2-عملية التأليف.في العنوان الأوّل، يبدو أن السعوديين مع المجتمع الدوليّ مزمعون وعازمون على تثبيتهم في لبنان ضمن مفهوم الاندماج في المجتمع اللبنانيّ. ويستعملون وسائل عديدة من أجل حملهم على البقاء واستعمالهم كأوراق نافذة في تبويب مذهبيّ وطائفيّ يريدون إدخال لبنان به، وفي الوقت نفسه من أجل كسب المزيد من التنازلات في التسوية السوريّة المقبلة، بتحويل النازحين إلى مجرّد أوراق ضاغطة على الداخل السوريّ من جهة وعلى المقاومة من جهة ثانية من الزاوية المذهبيّة البحتة، ويوظّفون عددًا من القوى اللبنانية لمحاربة التيار الوطنيّ الحرّ والعهد وكتلة لبنان القويّ في السعي إلى إعادتهم إلى المناطق السوريّة الآمنة ضمن مفهوم العودة الآمنة وليس حتمًا العودة الطوعيّة. في العنوان الثانيّ يقفزالسعوديون من قضيّة النازحين ليرفعوا بدورهم السقوف بصورة مطّردة ليكون لهم المجال الواسع في التفاوض والتساوم وكسب المزيد من أوراق القوة. لا شكّ بأن مصلحتهم تكمن في أن يؤلف سعد الحريري الحكومة، ولكنهم يريدونه مهيض الجناح مدينًا حصرًا لهم وليس لسواهم. ولذلك يحاولون أن يظهروا بأنهم في موقع الفرض والرفض في آن واحد. والحريري في الوقت عينه يلعب لعبة المناورة حتى تتوضّح الصورة ويبان المشهد وتولد اللحظة.برأي كثيرين من المتابعين، لا يملك الحريري وقتًا كثيرًا. لبنان داخل مواجهة حقيقيّة في لعبة أكبر منه، ويفترض العقل أن يتم بتّ عملية التأليف بواقعية حقيقيّة تلحظ ما تمّ حصوله من نتائج. اللعبة الأكير ترجّح المنطقة ما بين التسوية الصغرى أي السوريّة والكبرى أي في المنطقة. يراهن السعوديون على جمع لبنان والعراق في كيانية سياسية واحدة، ويعمدون على الفوز باليمن في المناطق الأكثر حيوية، وتلتحق بهذا الانتظار قوى أخرى. والأميركيون يستثمرون المال السعوديّ بفعل كرتونيّ. من هنا يعوّل الكثيرون على أوراق القوة في يديّ رئيس الجمهورية العماد عون، وهو القادر على رميها بقوة إلى جانب حزب الله وشخصيات أخرى. ويعتقد بعض السياسيين بأنّ الحريري أمام فرصة أخيرة بإمكانه أن تعيد الروح إلى دوره السياسيّ، والفرصة تكمن في التأليف واستمرار التحالف مع سيّد العهد، وتثبيت التسوية بينه وبين التيار وحزب الله. فمتى فعل ربح وربح معه لبنان وأثبت أنه أهل للوجود السياسيّ الفاعل والمستقر والقويّ في منطقة مقبلة على مرحلة جديدة.

شارك الخبر على