نشأة الروائي العالمي

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
القسم الأوّل
أقدّمُ أدناه القسم الأول من ترجمة لمقالة بعنوان ( نشأة الروائي العالمي The Rise of the Global Novelist ) كتبها ( سيدهارتا ديب ) وظهرت في مطبوعة ( The New Republic ) الأميركية بتأريخ 25 أبريل ( نيسان ) 2017 ، وتتناول في عمومها كيفية قراءة المشهد الروائي العالمي في عصر بات محكوماً بنزعة شعبوية متمحورة على الخوف من الآخرين ، وكذلك دور الروائي في ديناميكية العولمة القيمية والإنسانية . سيدهارتا ديب Siddhartha Deb : كاتب هندي نال تعليمه في الهند ثم أكمل دراسته العالية في جامعة كولومبيا الأميركية المرموقة ، وقد نشر العديد من الكتب أذكر منها روايته الأولى ( نقطة العودة The Point of Return ) عام 1998 وهي رواية شبيهة بسيرة ذاتية .
المترجمة
عندما نُشِرت الترجمة الإنكليزية لرواية (مدن الملح) - وهي رواية عربية كتبها الروائي عبد الرحمن منيف - عام 1988 كتب جون إبدايك John Updike مراجعة لها في مطبوعة النيويوركر، وممّا جاء في تلك المراجعة : " إنّه لأمرٌ يؤسف له - آخذين بنظر الإعتبار الحمولة الملحمية لهذه الرواية - أنّ السيد منيف، السعودي المولود في الأردن، يبدو غير متشبّع بما يكفي من القيم الغربية التي تؤهله لإنتاج سردية روائية تقترب كثيراً ممّا ندعوه (رواية) رغم أنه يعيش في فرنسا (الحديث بالطبع يجري عام 1988، المترجمة) وقد نال شهادة الدكتوراه في إقتصاديات البترول من جامعة بلغراد. يبدو صوته الروائي وكأنه يشرح حال جماعة يحضرون حفلة سمر في مخيّم.... ". كان أبدايك يكتب آنذاك والعالم يقترب من خواتيم الحرب الباردة، وبدا شديد الوثوق بإعلاناته الصارمة بشأن كلّ من الرواية، والغرب، والكتّاب الذين يتعاملون مع الموضوعات الجبهوية المتقدمة التي تشكّل تحدّيات راسخة، وهو الأمر الذي حصل مع منيف ذاته ؛ فوالده كان سعودياً، وأمه عراقية، وحمل في حقب مختلفة من حياته جواز سفر جزائرياً ويمنياً وعراقياً. كتب منيف روايته (مدن الملح) وهو مقيم في فرنسا بعد أن نُزعت عنه جنسيته السعودية ووجد نفسه مناوئاً لنظام صدام حسين في العراق، وإذا مادققنا في حقيقة واحدة - بين حقائق كثيرة - تقول إنّ الرواية مُنِعت في السعودية بعد أن طالها الكثير من القدح والنقد الصارخ من قبل شركات البترول الأميركية والأوليغاركيات العربية فسيكون مبعث غرابة كبرى أن لايُتاح أمام السيد أبدايك مايقوله سوى " إنّ فكرة حظر رواية في السعودية أمرٌ له وقعُ غرابة مدهشة مثل فكرة حظر الحشيشة في مينيابوليس ! ". من العسير حقاً إستذكار حالة قوبلت فيها رواية أجنبية بمثل هذه العدوانية بين أوساط دوائر النشر الأميركية الرئيسة في العقود التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، ومايزال الكتّاب الأجانب - ربما - يُعامَلون باعتبارهم غريبين أو مختلفين وقد لاينالون أية تغطية تعرّف بأعمالهم على الإطلاق ؛ لكن برغم ذلك لم تعتقد حتى أكثر أوساط النخبة الأقلية المتشدّدة في المؤسسة ضيقة الأفق التي تضمّ مراجعي الكتب في نيويورك أن مثل تلك الروايات (أي الروايات الأجنبية، المترجمة) هي أعمال لامكان لها بالكامل في عالم يُعاد تشكيله بسرعة فائقة بفعل دفع العولمة ؛ إذ في حقبة يسود فيها السفر رخيص التكلفة بالطائرات، والإتصالات الرقمية، والنزعة الإستهلاكية المتغوّلة، والإرتقاء المديني العالمي في أغلب مناطق الأرض، وهيمنة اللغة الإنكليزية - وهذه العوامل كلها مترافقة مع كون الولايات المتحدة القوة الإمبريالية العالمية الوحيدة الباقية - فإنّ القرّاء والمحرّرين والنقّاد وجدوا الأمر أكثر يسراً وسهولة عند الترحيب وكَيْل الإطراء لأعمال كتبها هاروكي موراكامي أو أورهان باموك، واللقطات اللمّاحة السريعة للحياة الأجنبية (أي خارج فضاء الغرب، المترجمة) التي تكشف عنها. الحقّ أنّ الناقد الأدبي آدم كيرش Adam Kirsch يقدّم آراءه الحجاجية في كتابه الجديد الموسوم (الرواية العالمية) في أنّ هذه الظروف المستجدة - التي ذكرنا بعضها أعلاه - عملت على نشأة شكل أدبي جديد بالكامل لم يعُد مأسوراً بإحكام داخل الحدود الوطنية، وغالباً مايتناوله كتّاب يأنسون للترحّل بين الثقافات. الرواية العالمية (وهو المقصود بهذا الشكل الأدبي الجديد) تلتقط الموضوعة الأثيرة المعتادة لفنّ الرواية في مساءلة الطبيعة البشرية واستغوار أبعادها وتضعها في سياقات عالمية (كوسموبوليتانية الطابع). قد يتباين بالطبع مدى وهيكلية هذه الكتب الموصوفة بالعالمية، وهنا يفترض كيرش أنّ " الرواية العالمية يمكن أن تكون رواية تتعامل مع الإنسانية على مستوى النوع البشري بكامله ؛ حيث أنّ المعضلات والتطلّعات البشرية لايتمّ التعامل معها إلّا على مقياس يشمل الكوكب بكامله، أو يمكن لها أن تبدأ من مقياس بشري محلّي قريب لكنها تسعى في الوقت ذاته لبيان الكيفية التي تغدو فيها أكثر الحيوات البشرية إنصياعاً للمحدوديات القائمة متأثرة بديناميكا الحركات عالمية الطابع " ؛ وبرغم ذلك فإنّ مثل هذه السرديات تبقى مرتبطة أوثق الإرتباط بشأن إهتماماتها المشتركة تجاه " المعضلات العالمية المعاصرة ومنها الهجرة، الإرهاب، التردّي البيئي، الإستغلال الجنسي... ". إنّ الإختلافات التي أثارت ردّة فعل أبدايك وفاقمت شكوكه بشأن الأشياء التي لم تكتمل ترسيمتها الغربية تصلح بذاتها لتكون مقاربات إستمدّ منها كيرش الإلهام في عمله ؛ إذ في غمرة تفاقم النزعة الشعبوية التي تُعلي مظاهر الخوف من الأجانب، وفي عصر البريكسيت* ودونالد ترامب يعتقد كيرش أنّ الرواية العالمية تستحقّ أن تمثّل وتعزّز إيمان غوته في كون " الشعر ملكية كونية للإنسانية "، ويرى كيرش في الولع الطاغي والمتزايد للقرّاء بهذا النوع من الرواية حقيقة تؤكّد راهنية وعلوية القيم الليبرالية " مثل التسامح أزاء الإختلاف، والفهم المتبادل، والتبادل الحرّ للأفكار. " إنّ التحدّي الماثل أمام الروائي العالمي يكمن - على النحو الذي يراه كيرش - في أمور كثيرة هي في جوهرها مسألة أسلوب وتقنية : " كيف يتأتّى لكاتب متجذّر في ثقافة ما أن ينقل حقيقتها إلى قًرّاء من أماكن وثقافات شديدة التباين ؟ " هكذا يتساءل كيرش. وفي خضمّ محاولته الحصول على إجابة مناسبة يمضي في مساءلة أعمال ثمانيةٍ من الكّتّاب : باموك، موراكامي، روبرتو بولانيو، تشيماماندا نغوزي أديتشي، محسن حميد، مارغريت آتوود، ميشيل ويليبيك، إيلينا فيرانتي. يكتب كيرش بخصوص هؤلاء الكتّاب والكاتبات قائلاً : " هم يتوزّعون على ستّ لغات : التركية، اليابانية، الإسبانية، الإنكليزية، الفرنسية، الإيطالية. "، ويضيف كيرش " وثمّة إتفاق مقبول على الصعيد العالمي بأنّ هؤلاء يمثّلون الشخصيات الروائية التي تقود عربة الرواية في (بانثيون) الأدب العالمي. " لو شئنا الحديث بدقة أكبر لقلنا إنّ نوعية الأعمال التي يبدو أنها جذبت كيرش إلى العديد من هذه الأعمال الثمانية هي الوقع الرنيني الذي لاقته في الغرب. الرواية الأولى التي يتناولها كيرش بالتحليل المطوّل هي رواية (ثلج) لأورهان باموك : تحكي الرواية عن شاعر يدعى Ka يعود لتركيا بعد إثنتي عشرة سنة قضاها في الخارج، ويسافر إلى بلدة Kars - التي تمثل إحدى البلدات المهمّة في مقاطعة تركية - للبحث والكتابة عن ظاهرة (الفتيات المنتحرات) اللواتي هنّ شابات يافعات يمكن أن يمثّلن (وربّما لايمثّلن) شهيدات من أجل عقيدة دينية، وقد حصل أن إنخرطت إحداهنّ في تظاهرة مدرسية رفضت فيها خلع وشاح رأسها مثلما طلب إليها مدير مدرستها علماني النزعة الذي يتمّ إغتياله لاحقاً على يد متطرّف إسلامي تحت دعوى أنه يقمع المعتقدات الدينية. بالنسبة إلى كيرش فإنّ هذا الأمر يرينا الكيفية التي تعرض فيها رواية (ثلج) وبطريقة دراماتيكية الحالة الصراعية " بين تركيا وأوربا، بين الإسلام والغرب "، وهكذا يوضع باموك في هذه الرواية في سياق الغرب وأفكاره الراسخة بشأن الإسلام بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001. جعلت هذه الرواية من باموك، بحسب رؤية كيرش، تجسيداً مثالياً لكاتب عالمي. تمثل تركيا بحسب رؤية كيرش " بلداً إسلامياً (على النمط التقليدي) تمّ إخضاعه للعلمنة القسرية في عشرينيات القرن الماضي ثمّ بدأ يشهد إنتفاضة (الإسلام السياسي) مع تسعينيات القرن ذاته، وفي مواجهة هذه الخلفية يبدو باموك كاتباً متفرّداً وعلى نحو غير مسبوق في دولة شمولية، وظهر باموك كاتباً تتداخل ثيماته الروائية مع (الهواجس الغربية) بشأن الصراع بين الإسلام والعلمنة، وبين الحرية الفردية والإعتقاد الجمعي، وفي هذا السياق يشير كيرش إشارة واضحة إلى الخطورة الكامنة في اعتبار باموك (سفيراً) من تركيا إلى بقية العالم وبخاصة منذ أن تنصّل باموك ذاته عن لعب دور السفير المرتجى من خلال إجادته استخدام اللعب بالكلمات وتضمين عناصر من الميتافيكشن في روايته : على سبيل المثال فإنّ إسم بطل روايته هو Ka، واسم البلدة هو Kars، والمفردة المقابلة للثلج في التركية هي Kar (وهي إسم الرواية في طبعتها التركية الأصلية) وهذه كلّها مفردات تتصادى الواحدة مع الأخرى بطريقة كيفية ؛ الأمر الذي جعل كيرش يتوقّف عنده كثيراً بالدرس والمعاينة :تمثّل مفردة Kar إذن في اللغة التركية تجسيراً لغوياً بين البطل، Ka، والبلدة Kars : Ka , Kar , Kars، لعبة كلمات تقترح ضمناً وحدة عميقة بينها، وكما إعتزم باموك بالطبع فإنّ هذه المتوالية من الكلمات عصية على الترجمة. تستطيع عند سماع هذه المفردات بالإنكليزية أن تلحظ التشابه بين Ka و، Kars ؛ غير أنّ الأمر لايصحّ مع مفردة (ثلج) التي توحّد بينهما. إنّ هذه التشكيلة المفرداتية يمكن وصفها بأنها تشكيلة جريئة من حيث الطريقة التي تسعى بها لترسيخ إستعصاء المفردات على الترجمة إلى لغات أخرى في رواية يبدو كاتبها مسكوناً بهواجس الترجمة الثقافية ؛ غير أنّ الرواية تبدو وبطريقة مكافئة للهواجس السابقة ميّالة لترسيخ حقيقة أخرى... بشأن إستحالة الحصول على رؤية كاملة عن مكان أو كتاب من خلال الإكتفاء المحض بمعاينته من الخارج فحسب. بكلمات أخرى يُراد القول من وراء هذه المفردات إن ثمّة محدّدات ثقافية مُقيّدة قد تفوت - ربّما - القارئ الغربي، ولاتعمل قراءة كيرش الإستكشافية لهذه المحدّدات الثقافية على المضي أبعد من إمتحان الموضوعات الأسلوبية ؛ ليس ثمة، على سبيل المثال، قراءة للطريقة التي عمل بها باموك في عدد من رواياته على كشف معضلات الحداثة في تركيا - البلد المحكوم بدولة شمولية لاتتورّع عن سحق المعارضة في الوقت الذي تُعتبر فيه حليفاً سياسياً للولايات المتحدة، وهي في الوقت ذاته دولة يضمّ تأريخها الطويل الإسلام بين جناحيه كعنصر من العناصر المشكّلة للحداثة التركية ولكنّ الدولة التركية لاتقف موقفاً واضحاً لالبس فيه إلى جانب أحد طرفي الإنقسام والتنازع بين (الإسلام والغرب).
* بريكسيت Brexit : مفردة تشير إلى خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. (المترجمة)

شارك الخبر على