قضية للمناقشة الإسلام .. و"برنارد لويس"

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

فريدة النقاش
" ياله من خبر جميل ، رحل أخيراً ملك الحقد ، منظر صراع الحضارات " . بهذه الكلمات القاسية علق السياسي اللبناني " وليد جنبلاط " على رحيل المفكر الأمريكي ـ البريطاني " برنارد لويس " عن عمر تجاوز القرن بعامين ، ملأ خلاله الدنيا وشغل الناس ، وأصبح صوته مسموعاً ونافذاً ، وحين ندقق في معرفتنا عن إنتاج ونشاط هذا المفكر الصهيوني ، سوف نقول إن " جنبلاط" كان محقاً ، رغم أن الشماتة بالموت ليست من خصائص الثقافة والدين الإسلامي ، فالشماتة مكروهة حتى لو كان الميت عدواً. والحق أن " برنارد لويس " هو عدو من الوزن الثقيل لا للعرب والفلسطينيين فحسب ، وإنما للتحرر الإنساني بعامة . فقد كرس " لويس" معرفته وثقافته الواسعة وأبحاثه التاريخية لبلورة وتأصيل مشروع تفتيت منطقتنا على أساس ديني ، طائفي وعرقي لمصلحة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني من أجل هيمنة " إسرائيل" التي زرعها الاستعمار في فلسطين على العرب جميعاً، وتأييد نهب ثرواتهم ، وإخضاعهم بصفة دائمة . وإذا كان رجل الأمن القومي الأميركي " صامويل هنتنجتون" قد بلور نظريته حول صراع الحضارات معتبرا أن الإسلام والمسيحية الشرقية يشكلان خطراً كبيراً على حضارة الغرب المتقدم ، إذا كانت أسس هذه النظرية من الزاوية السياسية ترشد دوائر القرار " الأمريكي ـ الأوروبي" إلى ضرورة خوض صراع الحضارات ضد هذا التهديد ، فإن " لويس " غاص عميقاً في تاريخ منطقتنا وثقافتها ومعارفها ليعزز مشروع صراح الحضارات ، معتمداً على نصوص دينية بلا سياق ، ومتجاهلاً ـ ما كان يعرفه جيداً ـ عن الأدوار المجيدة التي لعبتها الثقافة العربية الإسلامية في فتح الأبواب أمام أوروبا في العصور الوسطى المظلمة لتصنع نهضتها ، ويعرف أي باحث مبتدئ في تاريخ الفكر الدور المحوري الذي لعبه المفكر الإسلامي " بن رشد" في النهضة الأوروبية . وقبل أن أستطرد لابد من تأكيد أن بعض الأفكار السلبية في النصوص الدينية الإسلامية ليست من اختراع المستشرقين ، بل إنها موجودة فعلاً ، ولكنها كانت دائماِ شأنها شأن كل نتاج فكري إنساني بنت زمانها وظروفها ، والرؤية النقدية الشاملة للتراث هي وحدها كفيلة بإزاحة السلبي وتعظيم الإيجابي فيه . كما أن هناك حقيقة كبرى أخذت تشق طريقها بانتظام في ثقافتنا بعد هزيمة حركة التحرر العربي ، وسقوط منطقتنا في قبضة التبعية ، فمع هذه الهزيمة تفننت القوى الرجعية في العالمين العربي والإسلامي في محاصرة وقمع كل اتجاهات التجديد في الفكر الديني الإسلامي ، وقطعت الطريق على نموها الطبيعي ، وهمشت المفكرين المبدعين ، وازاحتهم بانتظام عن المشهد ليحل محلهم دجالون وأدعياء وكأنما ينفذون أجندة دعاة صراع الحضارات بحذافيرها وهم يقدمون هذه الصورة السلبية للإسلام التي تروج لها أجهزة إعلام ووسائل اتصال جبارة ، دأبت على اختلاق الأكاذيب وترويجها باعتبارها حقائق حتى يثبتوا أننا متخلفون ، ونستحق المصير الذي قررته لنا القوى الأمبريالية والصهيونية . يقول " محمود درويش " : " المغول " يريدون لنا أن نكون / مثلما يبتغون لنا أن نكون . ويجري التنكيل في عالمنا بالمفكرين المجددين ، بعضهم يذهب للمنافي في حالة النجاة ، وآخرون يقبعون في السجون ، وصولاً إلى القتل ، كما حدث مع المفكر " فرج فودة " وعشرات من المثقفين التنويريين في الجزائر من مسرحيين وباحثين وشعراء ، خلال ما سمى بالعشرية السوداء ، حيث اتخذ الصراع السياسي شكلاً دينياً. وهكذا تحمل المفكر الفلسطيني الراحل " إدوارد سعيد " ـ وحده تقريبا ـ مهمة الرد العلمي القوي ، والنزيه على افتراءات " برنارد لويس " ، سواء في ذلك منهجه الذي يلبس ثياب العلم بينما هو يخاصم أسسه بانعدام النزاهة ، أو في التفاصيل التي ينتزعها من قلب الوقائع والصراعات ليثبت عدم جدارة المسلمين بالمطلق كتبرير لوجود إسرائيل وأدوارها كذراع للقوى الأمبريالية وبإدعاء أنها تعمل على " تحضر" المنطقة المتخلفة ، كما كان إدعاء الاستعمار والاستعباد على مر التاريخ. وكان رد " لويس" على " إدوارد سعيد " مفعماً بالكراهية والعنف وصولاً إلى الألفاظ البذيئة لأن " إدوارد سعيد " كشفه ، بل ربما كان الأدق أن نقول إنه " عراه" علمياً ، مفنداً كل أكاذيبه وإدعاءاته و" كراهيته" للعرب والمسلمين . ونشطت القوى الصهيونية بعد موت " إدوارد سعيد " في طمس تراثه والتعتيم على كتبه وإضافاته حتى تترك الساحة " لبرنارد لويس" يبث دعاياته السوداء باسم العلم للمشروع الصهيوني ، وللمخطط الامبريالي القديم الجديد . ولم ننجح نحن المسلمين والعرب في تقديم مفكرين كبار آخرين بعد " إدوارد سعيد " مسلحين بالعلم ، والمعرفة والمنهج لأننا استأصلناهم واحداً بعد الآخر ، وكان سعيد قد نجا لأنه عاش في الغرب وشملته حماية القوانين ومناخ الحريات الأكاديمية وهناك عدد من الأساتذة والباحثين العرب والمسلمين ، الذين يعملون في الجامعات الأوروبية والأميركية ويقدمون اضافات باهرة . لا يكفي إذن أن نكره " برنارد لويس " الذي سيبقى عمله ومنهجه حيّاً لأجيال قادمة إلى أن تنتصر اتجاهات التجديد في الفكر العربي الإسلامي ، ويكون بوسعنا أن نقدم للعالم مفكرين تنويريين بقامة " إدوارد سعيد " وأفضل ، وهو صراع كبير سوف يستمر زمناً طويلاً بطول الزمن الذي تحتاجه حركة التحرر العربي ، وهي تنهض من رماد الهزيمة والخذلان ، ويحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه وتصل موجات الثورة المتعاقبة إلى أهدافها ، وتهزم الشعوب مخططات الرأسمالية المتوحشة ، وهي ترمي في نضالها مفاهيم حوار الحضارات وتكاملها ، لا صراعها كما أراد " برنارد لويس " وسلفه صامويل هنتنجتون ، وإن غداً لناظره قريب .

شارك الخبر على