مصر هل يُصلح الاقتصاد ما يُفسده السيسي؟ (٢ ٢)

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

د. ناجح العبيدي
في نفس الوقت تسعى مصر لترشيد دعم المواد البترولية والكهرباء الذي يتوقع أن يستولي وحده على 140 مليار جنيه من ميزانية العام المالي 2017/2018، أي ما يقارب 12 % من إجمالي النفقات العامة. وكان ذلك أحد أسباب ارتفاع العجز في ميزانية العام الجاري بنسبة تزيد عن 20 % مقارنة بميزانية العام السابق. صحيح إن الأرقام الفعلية للنصف الأول من العام المالي الجاري والمنشورة من قبل وزارة المالية جاءت أقل ولم تتجاوز 7 %، إلاّ أن ذلك يشير إلى أن مشكلة العجز، وكما يؤكد د. حبيب أيضا، ستبقى تلقي بظلاها على أداء الاقتصاد المصري لفترة طويلة قادمة. غير أن الأرقام المطلقة للعجز الواردة في مقال الدكتور كاظم حبيب غير كافية لوحدها لتبيان أبعاد المشكلة. فنتيجة للنمو الاقتصادي المتسارع ولتضخم الأسعار انخفضت نسبة العجز بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي وحجم الميزانية في تطور إيجابي يمكن أن يستمر لاحقا. في نفس الوقت تسعى مصر على المدى الطويل لخفض العجز عبر تعظيم الموارد الضريبية من خلال رفع نسبة ضريبة القيمة المضافة وتوسيع القاعدة الضريبية. في الوقت الحاضر لا تغطي الضرائب سوى نصف النفقات العامة. وعلى الرغم من تحسن هذه النسبة في السنوات الماضية، إلاّ أن تطبيق نظام ضريبي فعال وعادل سيبقى أحد التحديات الكبيرة التي تواجه مصر. هنا يمكن لضريبة القيمة المضافة، وكما تُثبت تجربة عشرات البلدان الصناعية والناشئة، أن تساهم ليس فقط في زيادة حصيلة الضرائب، وإنما أيضا في تحسين الكفاءة في استغلال الموارد الاقتصادية المتاحة. والأهم من ذلك تعزيز القاعدة المالية لاستقلال القرار الاقتصادي المصري وتقليص التبعية المالية لدول الخليج الثرية. ساهم تعويم الجنيه والتحسن النسبي في الوضع الأمني في تعافي قطاع السياحة الذي يشكل مصدر رزق لمئات اللآلاف من المصريين، وذلك بعد الانهيار المريع نتيجة الاضطرابات الخطيرة التي رافقت الإطاحة بحسني مبارك. من جهة أخرى يبدو أن الحظ يبتسم أيضاً للسيسي لأن الفترة الأخيرة شهدت الكشف عن احتياطيات كبيرة للغاز والنفط والبدء بسرعة في استغلالها الأمر الذي يعزز من طموحات مصر بالتحول قريباً إلى مركز هام للطاقة في الشرق الأوسط. لكن السؤال الأهم: ما تعني هذه الأرقام الإيجابية بالنسبة للمواطن المصري العادي؟ وهل سيُكافأ قريباً على تحمله الصبر والأعباء الناجمة عن الإصلاحات الصارمة؟ هذه السؤال يجب أن يشغل بال الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي على حد سواء. ويبدو أن صندوق النقد الدولي، وبعد فشل برامج التثبيت في بلدان عديدة، بدأ يعي هذه المشكلة. لهذا أكد ديفيد ليبتون النائب الأول للمدير العام للصندوق في المؤتمر المنعقد مؤخراً في القاهرة على أن "الوقت قد حان الآن للاستفادة من الاستقرار الاقتصادي الكلي الذي تحقق بصعوبة بالغة والمضي نحو خلق فرص العمل ورفع مستويات المعيشة من خلال النمو المستدام." لا يمكن الشطب بجرة قلم على كل تجارب صندوق النقد الدولي مع الدول التي تلجأ إليه نتيجة تعرضها لاختلالات نقدية ومالية خطيرة. إلى جانب التجارب الفاشلة في السودان والبرازيل واليونان ومصر سابقا وغيرها، هناك أيضا تجارب ناجحة مثل تجربة كوريا الجنوبية وبريطانيا وأندونيسيا والهند وماليزيا وغيرها. لا أحد يلجأ للصندوق حباً في شروطه، وإنما لأن أوضاعه حتمت عليه ذلك ولأنه بحاجة لشهادة حسن السلوك اللازمة للحصول على التمويل والاستثمارت من القطاع الخاص الأجنبي. من جهته يحاول الصندوق أيضاً التعلم من التجارب السابقة. غير أن النجاح في التغلب على الأزمة يعتمد بالدرجة على الحكومة المعنية وقدرتها على تطبيق الإصلاحات وإقناع الرأي العام بضرورتها. ويبدو أن السيسي استغل الشعبية الكبيرة التي اكتسبها بعد الإطاحة بالرئيس الإسلامي محمد مرسي في تمرير إصلاحات مؤلمة دون أن يُضطر لدفع ثمن باهظ. وهذا ما يفسر جزئيا عدم اندلاع اضطرابات اجتماعية كبيرة في خريف 2016 على خلاف توقعات الكثيرين. غير أن القدرة على التحمل ليست بلا حدود الأمر الذي يتطلب إشراك فئات أوسع في ثمار النمو المتحقق. ولعل أكبر تحدٍ تواجهه الحكومة هنا هو توفير فرص عمل ليس فقط لجيش العاطلين حاليا، وإنما أيضا لقرابة ثلاثة أرباع مليون مصري يدخلون سوق العمل سنويا. وإذا كان من المستحيل أن يستوعب القطاع العام هذا الطوفان البشري، فإن الحكومة يمكن أن تساهم في الحل عبر تحسين المناخ الاستثماري وفتح المجال أمام القطاع الخاص و تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة بدلا من التركيز على مشاريع استعراضية كبيرة مثل توسيع قناة السويس وإقامة عاصمة جديدة أو الاعتماد على الشركات التابعة للجيش. لا يمكن وصف مثل هذا التوجه بأنه تبنٍّ للنهج النيوليبرالي، كما يشير د. حبيب في معرض حديثه عن وصفة صندوق النقد الدولي. والسبب بسيط جدا لأن الظروف الملموسة للحياة الاقتصادية في مصر حيث لا تزال بصمة القطاع العام – وبما فيها شركات الجيش – طاغية ، تجعل من ذلك أقرب إلى الخيال. لن أكرر الملاحظات الهامة للدكتور كاظم حبيب بشأن السياسة الاستبدادية لنظام السيسي وتراجع الحريات وأوضاع حقوق الإنسان في مصر لأنني أتفق تماما مع كل ما ذكره. ومن دون شك فإن النجاحات الاقتصادية لا يمكن مطلقا أن تُوظف لتبرير أساليب القمع والدكتاتورية، لكن إدانة ذلك لا يمنع أيضا من تقييم السياسة الاقتصادية بحيادية. صحيح أن الترابط بين الاقتصاد والسياسة قضية بديهية، لكن هذه العلاقة معقدة ومتداخلة ويمكن أن تتغير بمرور الزمن. وهذا لا ينطبق على مصر وحدها وإنما على بلدان عديدة حيث تظهر تناقضات واضحة بين النظامين السياسي والاقتصادي، لا سيما أثناء مرورها بمرحلة انتقالية. بتبسيط شديد يمكن القول بأن هناك نموذجين رئيسين: الأول يقضي بأن تسير الإصلاحات الاقتصادية والسياسية يداً بيد، والثاني بأن يتم فرض الإصلاحات وإجراءات إعادة الهيكلة من فوق مع الإبقاء على النظام السياسي. بعيدا عن الرغبات الشخصية وعن التفاصيل الكثيرة تُبين التجربة العملية أن تطبيق النموذجين ترافق مع نجاحات وإخفاقات متفاوتة. انتهت مثلاً محاولة ميخائيل غورباتشوف بتحديث النظام الشيوعي سياسياً واقتصادياً بكارثة، بينما لا تزال الصين بقيادة الحزب الشيوعي الحاكم تحقق نجاحات اقتصادية هائلة ستجعل المارد الأصفر قريباً أقوى اقتصاد في العالم على الرغم من أن الانفتاح الاقتصادي يسير في ظل النظام الاستبدادي. هنا تتعايش السياسة الاقتصادية الليبرالية مع انعدام الحريات السياسية جنباً إلى جنب - على الأقل حتى الآن - دون أن تظهر تناقضات حادة. ولا تخفى هنا أوجه الشبه مع الحالة المصرية. في المقابل نجحت بولندا والمجر وسلوفينيا وجمهوريات البلطيق وألمانيا الشرقية وبلدان أخرى في شرق أوروبا في تحقيق عملية انتقال سلسلة نسبيا تزامن فيها القضاء على نظام الحزب الواحد مع خصخصة القطاع العام والانفتاح على الاقتصاد العالمي في إطار نظام اقتصاد السوق الاجتماعي. أما العالم العربي فقد ضيّع "المشيتين" . من جهة لم تؤدِ ثورات الربيع العربي إلى قيام نظم ديمقراطية راسخة، وفي نفس الوقت تم التوقف حتى عن الإصلاحات الاقتصادية الحذرة التي بدأتها النظم الاستبدادية السابقة بسبب الخوف من نقمة الشارع.بعد هذا التجارب المريرة تختار مصر الآن طريق الإصلاحات الاقتصادية. ومع كل التعقيدات والتجاذبات واحتمالات الفشل، تلوح في الأفق بوادر انفراج واضحة في الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعرضت لها البلاد في مرحلة حاسمة من تطورها. قد تدفع هذه التطورات الإيجابية دولاً عربية أخرى للاستفادة من التجربة المصرية، كما فعلت المغرب مؤخرا وربما تلحقها تونس. ويمكن لاستمرار هذه النجاحات أن يشكّل أيضا أساساً لعودة مصر للعب دورها الإقليمي في المنطقة على المدى المتوسط. كما لا يستبعد أن يصب النجاح الاقتصادي في نهاية المطاف في فرض تحولات سياسية أيضاً.

شارك الخبر على