حرب تلتهم الشرق الأوسط

حوالي ٦ سنوات فى الشبيبة

فواز جرجسقُضي الأمر. يبدو أننا لن نشهد نهاية سريعة لمهمة الولايات المتحدة في سوريا ــ ومع تباعد هذه النهاية تتضاءل فرص التوصل إلى حل سلمي ومستدام للحرب الأهلية الوحشية التي تدور رحاها في البلاد منذ سبع سنوات. ويثبت الهجوم الكيماوي الذي تزعم التقارير أن الجيش السوري نفذه في مدينة دوما، آخر معاقل الجماعات المسلحة في منطقة الغوطة الشرقية، مدى خطورة هذا الاحتمال بالنسبة لسوريا والعالَم.تكشف فورة التهديد والوعيد العاصفة التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أعقاب الهجوم الكيميائي عن مدى تفكك وتناقض نهجه، فضلا عن افتقاره إلى أي استراتيجية حقيقة في سوريا. والواقع أن إصدار الأوامر بتوجيه هجوم أو اثنين ضد القوات الحكومية، لن يغير توازن القوى هناك، ولن يحسن موقف ترامب في البلد الذي مزقته الحرب، ناهيك عن الشرق الأوسط في عموم الأمر.من المؤكد أن كبار مستشاري ترامب العسكريين أقنعوه بالإبقاء على الأفراد العسكريين الأمريكيين (2000 جندي) المتمركزين حاليا في سوريا. لكنه حدد بالفعل أهداف أمريكا هناك داخل إطار القضاء على وجود تنظيم (داعش) الضئيل المتبقي ــ وهو الجهد الذي قد يستغرق نحو ستة أشهر.في تقييده للالتزام الأمريكي في سوريا، ضيع ترامب الفرصة للمساعدة في تشكيل مستقبل سوريا، الأمر الذي عزز التصور الواسع الانتشار ــ الذي ترسخ بين الأصدقاء والأعداء على حد سواء ــ بأن الزعامة العالمية الأمريكية تتراجع وتنحسر. كما تجاهل ترامب الأزمة الإنسانية الجارية في سوريا، رغم أنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.من عجيب المفارقات أن هذا النهج الضيق يتسبب أيضا في تقويض الجهود الرامية إلى تحقيق هدف ترامب الوحيد، لأن إلحاق الهزيمة الدائمة بتنظيم داعش وغيره من التنظيمات الجهادية يتطلب عملية انتقالية سياسية تنهي بشكل دائم الحرب الأهلية. ولن تتسنى مثل هذه العملية الانتقالية إلا من خلال المشاركة الدبلوماسية من قِبَل القوى الفاعلة ذات المصلحة في سوريا.مع انسحاب ترامب، الذي يعني ضمنا أن الولايات المتحدة وحلفاءها خسروا الحرب، يشعر حلفاء سوريا بجرأة متزايدة تدفعهم إلى الأمام في تنفيذ خطتهم لاستعادة السيطرة على المناطق المتبقية التي تحتلها الجماعات المسلحة بأي ثمن. وبعد تثبيت «الحقائق على الأرض»، يُصبِح بوسع الحكومة السورية وحلفائها فرض الأمر الواقع على العالَم: بقاء الأسد في السلطة، دون تقديم أي تنازلات حقيقة للمعارضة.الواقع أن القوى المحلية والإقليمية التي وضعت ثقتها في تعهدات أمريكا ستدفع ثمنا دمويا رهيبا. ومن المرجح أن يكون مصير الأكراد ــ حلفاء أمريكا الأكثر موثوقية وفعالية في الحرب ضد داعش ــ النبذ بالعراء، على الرغم من التأكيدات الأمريكية الرسمية بشأن الترتيبات الأمنية بعد انسحاب الولايات المتحدة.وبالفعل، انتقد الأكراد إدارة ترامب بعد أن ضحت بهم على مذبح العلاقات الاستراتيجية الأمريكية مع تركيا. فمؤخرا، تغاضت الولايات المتحدة عن الحملة التركية لغزو واحتلال بلدة عفرين التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا، والتي أسفرت عن مذبحة راح ضحيتها أكثر من 1000 من الأكراد، بما في ذلك العشرات من المدنيين.ومع انسحاب الولايات المتحدة، ربما يضطر الأكراد إلى التحالف مع الحكومة السورية طلبا للحماية. وقد هجر المئات من المقاتلين الأكراد القتال ضد داعش في شمال شرق سوريا بالفعل، فشَدّوا الرحال إلى عفرين لمقاومة الهجوم المشترك الذي تشنه تركيا ومجموعة منشقة من المتمردين السوريين. وبدأ بعض الشباب الأكراد ينضمون إلى وحدات حكومية سورية شبه العسكرية طلبا للانتقام بعد خسارة عفرين.لكن المعركة لن تكون سهلة، حيث من المرجح أن يعزز رحيل أمريكا يد تركيا أكثر وأكثر. وفي غياب الولايات المتحدة، سوف تتمكن القوى الأجنبية الرئيسية الأخرى في الصراع السوري ــ تركيا وروسيا وإيران ــ من توطيد مجالات نفوذها في نهاية المطاف وتقسيم غنائم إعادة الأعمار بعد الحرب بين بعضها بعضا. ورغم أن مصالحها الخاصة قد تتباين، فإن الدول الثلاث تتشارك في رؤية التقسيم «الناعم» لسوريا.وسوف تكون روسيا وإيران الفائزين الأكبر على الإطلاق. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتن هو صانع الملوك الذي أنقذ بتدخله العسكري في الوقت المناسب الحكومة السورية من الهزيمة وحول مد الحرب لصالحه. وفي حين تكاد الولايات المتحدة لا تُرى في أي مكان في سوريا، تنتشر روسيا في كل مكان، وتعيد ترتيب القطع على رقعة شطرنج الصراع على نحو متواصل.ويشهد تنسيق روسيا مع كل القوى الإقليمية الكبرى ــ بما في ذلك تركيا، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي ــ على دينامية (واستهزاء) سياسة الكرملين الخارجية. وبينما تهد الولايات المتحدة خيامها في سوريا، فلن تزداد علاقات تركيا العسكرية والاقتصادية مع روسيا إلا عمقا.ومثلها كمثل روسيا، استثمرت إيران قدرا وفيرا والثروات لإنقاذ الحكومة ــ وحصدت عائدات ضخمة. فالآن أصبحت إيران القوة الإقليمية الأكثر نفوذا في سوريا، وهي حاضرة في العراق ولبنان. لكن الاندفاع لشغل الفراغ الذي ستخلفه الولايات المتحدة ربما يوفر الشرارة التي تشعل حربا تلتهم المنطقة بالكامل. ولا يخلو الأمر من مخاوف مشروعة من إقدام إسرائيل على استخدام انسحاب القوات الأمريكية كذريعة لتكثيف هجماتها على إيران وحزب الله في سوريا ــ وهو القرار الذي قد يتصاعد إلى صراع إقليمي شامل، صراع تنزلق إليه الولايات المتحدة، والعراق، والمملكة العربية السعودية، التي تُعَد المنافس الرئيسي لإيران على الهيمنة الإقليمية.وحتى إذا نحينا جانبا عداء ترامب للاتفاق النووي مع إيران الذي أبرم العام 2015 ــ والذي يضيف مصدرا آخر للخطر لموقف محفوف بالمخاطر بالفعل ــ فقد أصبح الخطر الآن حقيقيا وداهما في تحول سوريا إلى موقع حريق أشد تدميرا حتى من ذلك الذي لا يزال مستعرا هناك منذ العام 2011.أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على