صوت من الأعماق

حوالي ٦ سنوات فى الشبيبة

أحمد المرشدربما لم يعش العندليب الراحل عبد الحليم حافظ حالة حب واحدة رغم الأقاويل الكثيرة التي تقول إنه عاش أكثر من حالة حب، إلا أنه وبعد 41 عاماً على رحيله، يظل عبد الحليم أو «حليم» كما أحب هو هذا الاسم من أصدقائه ومحبيه، متربعاً في قلوب العشاق، فلا يوجد عاشق سواء في جيله أو الأجيال التي جاءت بعده يعيش قصة حبه بدون الاستماع لأغانيه التي أذابت قلوباً وأرواحاً. فحليم الذي غني للحب ولمصر والوطن العربي، كان إنسانا محبا للحب نفسه ولمصره ووطنه الأكبر، فلم ولن ينساه الجميع.ولكننا ونحن نعيش ذكرى رحيله كنا نتمنى أن يكون حليم معنا وأنا شخصيا تمنيت أن أعيش عصر حليم وأنا أقيم في هذا البلد.. بلد عبد الحليم مصر العروبة هذا البلد الذي علمنا مفردات الحياة الجميلة في تذوق الجمال والطبيعة والحب والبطولات والسحر الرباني في نيل مصر وفجرها الرائع وشمس الأصيل في غروبها الجميل وأشياء.. وأشياء لأكون معه في أي مكان يعيش فيه أو ينتقل إليه، تمنيت أن أعايشه لحظات إبداعاته وقراءته أبيات الشعر الجديدة وكيف يختار منها أروعه ليغني لنا أعذبه وأشجنه، فكانت أغانيه وقصائده تتسم بالتنوع، ومع تنوعها أحبها الجميع وحفظها عن ظهر قلب، فكان جمهوره يخرج من حفلاته يردد كلماته، لتنتشر في كل مكان، حتى أفلامه لم تكن أقل حظاً من أغانيه، فيخرج جمهور السينما وهو يحفظ تماماً كل أغاني الفيلم. ومن هنا كان حليم نجم الشباب والكبار، وقاهر قلوب العذاري، فأحبته بنات جيله من مصر والوطن العربي، ولم تكن فتيات البلدان الأوروبية من أصول عربية أقل عشقا له، فترددت حكايات كثيرة عن وقوع الكثيرات في هواه وحبه ويتهافتن على رؤيته والاقتراب منه بمجرد علمهن بأنه موجود في هذه العاصمة أو غيرها. وقد شهدت العاصمة الفرنسية باريس أكثر من قصة حب ترددت هناك عن وقوع فتاة في حبه، ولكنه وكما يروي المقربون منه فكان يحافظ على شعرة معاوية مع الجميع، لا يرفض ولا يتمادى، فيترك البنات يقعن في حبه، ويقف هو محايداً ربما مستغلاً نجوميته والخوف على هذه النجومية أن تضيع لو عرف جمهوره العريض من النساء إنه تزوج أو أحب.. فقد كان يحافظ بقوة علي شكله العام ولم يتنازل عن الصورة التي وضع نفسه بها. حتى عندما شاعت قصة حبه للنجمة زبيدة ثروت بطلة فيلم «يوم من عمري» لتنتشر في وسائل الإعلام وقتها، ثم تشيع هي أنه تقدم لخطبتها إلا أن عائلتها رفضته بسبب عمله كمطرب وأنه لا يليق بحسبها ونسبها، فما كان من حليم إلا أن أوعز لابن شقيقه نفي قصة الحب جملة وتفصيلا، بل أشاع هو أن هذه القصة مختلقة وكانت مجرد دعاية مجانية لفيلم «يوم من عمري» قبل عرضه بالسينما.نفهم من هذه القصة، أن حليم كان شديد الذكاء ويعمل لنجوميته ألف حساب، ولم يتردد لحظة في دعم هذه النجومية، ولهذا يروون عنه أنه كان يحتفظ بأسماء صحفيين كثيرين آنذاك، ليفاجأ الواحد منهم على سبيل المثال بمكالمة هاتفيه من حليم يطمئن على ابنه المريض وأنه مستعد لتقديم أي مساعدة له. فقد كان حليم إنساناً مجاملاً محباً لأصدقائه والمقربين منه، ولم يرفض أبداً مد يد العون لأي إنسان، فكان قلبه طيباً للغاية مثلما كان يغني، فهو لم يمثل الطيبة والحنان، خاصة الحنان الذي افتقده وهو طفل صغير، ليجد في شبابه كل مصر تحبه وتشعره بالقرب منه.لقد تنوعت أغاني وقصائد حليم، ولم تقتصر على الغراميات والحب الملتهب، فكانت أغانيه عن النجاح وأعياد الميلاد، فنتذكر له أغنية «الناجح يرفع أيده» كانت أيقونة في كل بيت مصري بل وعربي لحظة إعلان نتائج الامتحانات، حتى إن الإذاعات العربية كانت تبثها تلقائيا وقت إعلان نتائج الشهادات. وكذلك الحال أغنية «عقبالك يوم ميلادك» فكانت الأغنية الرسمية لكل حفلات أعياد الميلاد حتى وقت قريب، فلم يخل حفل بدون تشغيلها وترديد جميع المدعوين لها.فعبد الحليم لم يكن مجرد مطرباً عاطفياً فقط، ولكنه كان جملة من العواطف، فكان وطنيا مفعما بحب بلده وزعيمها جمال عبد الناصر، فجسد مع الثلاثي صلاح جاهين الشاعر الكبير، وكمال الطويل الملحن المبدع، نموذجاً وطنياً مصرياً خالصاً، ليقدموا أروع الأغاني الوطنية، حتى قيل أنه لولا أغاني عبد الحليم الوطنية لما نجح مشروع جمال عبد الناصر في مصر والوطن العربي وإفريقيا بل والعالم أجمع. فمن حظوظ ناصر أنه عاصر فناناً مبدعاً وثورياً مثل حليم، فهو ظهر مع الثورة وغنى لها ولم تفته مناسبة لمصر إلا وغنى لها، كانت مصر هي نبض قلبه التي يتغنى بحبها، وغنى للاشتراكية والفلاح والسد العالي والحرب والنصر وإعادة افتتاح قناة السويس، وكانت أغانيه مثل الرصاص تشعل حماس المصريين والعرب معا. ولم تكن ثورية عبد الحليم عفوية أو وليدة اللحظة، ولكنه عاش ثورة يوليو بقلبه وكيانه ودمه، واندمج مع روح زعيمها جمال عبد الناصر بكلمات جاهين وموسيقى كمال الطويل، حتى أن الجميع حفظ هذه الأغاني أيضا ليظلوا يرددونها حتى يومنا هذا، بل إنني اعتقد أن أوطاننا في وقتنا الراهن تفتقر لمثل هذه الأغاني الوطنية المفعمة بالروح الثورية والتي كانت تحرك الجبال الساكنة.وعندما توفي قالوا عن حليم إنه النغم الذي اختنق في حلقه ومات، كناية عن حبه الشديد لفنه، ولكن موته لم يدفن أغانيه معه، بل زادت مبيعاتها حتى سجلت الأعلى في التاريخ، لأنه مثل الرسام الذي تتضاعف قيمة لوحاته عندما يرحل عن عالمنا، وكذلك الأديب الذي تزداد شهرته بعد رحيله ليصف القراء كلماته بـ»القدسية». هكذا الفنان عبد الحليم حافظ الذي مات وأصبح صوته الأغلى، لأنه صوت لن يتكرر ليحيا حليم عندليبا خالدا، لقد مات وذهبت حنجرته ولكن ظلت كلماته وآهاته وأغانيه، فالنغم باق معنا دائما عبر الزمان والمكان والأجيال.لم يرحل عبد الحليم، فكلنا نمتلك روحه وأغانيه، ولكننا عشقنا حبيباته ونجماته في الأفلام التي مثلها، وكلنا غنينا «أندم لو حبيت وقسيت وأندم لو عمري ما حبيت.. خايف أني أحب، وخايف ينسى الحب يوم يقابلني، وخايف أجرب وخايف أهرب، خايف أقرب يبعد عني». ولكنه الحب، هو عبد الحليم، هو الثورة والنصر والأرض والسلاح، وهو أيضا عيد الميلاد، وهو الموعود دائما بالعذاب، وهي الأغنية التي جسد فيها حياته وغناها بقلبه وليس لسانه.كاتب ومحلل سياسي بحريني

شارك الخبر على