قضايا الحسبة.. «عالة» على القانون وسيف على رقبة الإبداع

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

قانونيون: ألغيت بنص القانون.. وليس من حق العوام رفع القضايا.. واختصاص أصيل للنيابة

«جهاد ضد المبدعين باستخدام نصوص من كتب الفقه الإسلامى واستخدامها فى غير ما أراد الفقهاء».. ربما كانت جملة الكاتب حلمي النمنم وزير الثقافة السابق، خير وصف لـ«قضايا الحسبة» التي تستهدف الصحف والكتاب والمفكرين والمبدعين، والتي تزداد طرديا مع معدلات التضييق على حرية الرأي والتعبير والنشر.

بالأمس القريب سيق رئيس تحرير «المصري اليوم» وآخرون إلى نيابة أمن الدولة العليا على أثر بلاغ من محام اشتهر بتلك "المهمة" (تحرير البلاغات)، من غير ذي صفة، مستندا إلى قانون وعرف «الحسبة» بتهمة إهانة المصريين من خلال مانشيت اعتبره المحامي «جريمة» في حق الشعب، ما يعيد للأذهان قضايا أخرى شهيرة زجت برموز الفكر والأدب والصحافة والرأي في السجون أو خلف مكاتب التحقيقات بسبب ما يعرف بقضايا الحسبة ومحامون شعارهم «بلاغ للنائب العام».

ما هي الحسبة؟

الحسبة نظام إسلامي بحت فلم تعرف قبله، الأصل أنها عمل تطوعى ينطلق من أساس ورؤية دينية، حيث يراقب المحتسب أحوال الناس ومدى التزامهم بما أمر به الله أو نهى عنه، ويجعل ذلك نصب عينيه؛ لأن من أهم أهداف الشريعة الإسلامية تحقيق المصالح، ومنع المفاسد، استنادا إلى أن الله أمر عباده ببذل غاية الوسع فى التزام ما يصلح واجتناب ما يفسد.

ومع تطور الدولة الإسلامية واتساع رقعتها طور المحتسبون الحسبة وجعلوا لها قوانين «يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه؛ لأنها عندهم تدخل فى جميع المبتاعات، وتتفرع إلى ما يطول ذكره» كما يقول المقري فى «نفح الطيب»، وهكذا يتضح أن الحسبة لا تتعلق بالوصاية على حرية الفكر والإبداع، ويختلف مفهومها عن تطبيقاتها فى الوقت الحاضر.

مفهوم الحسبة حديثا

في الوقت الراهن تعني قضايا الحسبة أحقية أى شخص أن يرفع دعوى حسبة ضد أى عمل أدبى أو فنى أو أى شخص، وينصب نفسه وصيا على الآخرين ويقوم نيابة عنهم برفع الدعاوى التى أصبحت سيفا مسلطا على المبدعين.

وكثير من قضايا الحسبة شهدتها الساحة، لعل أشهرها قضية نصر حامد أبو زيد، ونجيب محفوظ، وفرج فودة، وعادل إمام، ونوال السعداوي، وأحمد ناجي، وإسلام بحيري، وغيرها من القضايا التى حكم فيها على شعراء وأدباء وفنانين.

لكن ما موقف القانون والدستور ورجال الفكر والدين فى هذه القضية الشائكة.. التفاصيل في سياق التقرير التالي..

مصادرة حرية الإبداع

فى البداية يضع الكاتب حلمى النمنم الحسبة فى سياقها التاريخى، موضحا أنها كانت تستهدف مكافحة الفساد الاقتصادى والإداري.

وأضاف النمنم في تصريحات صحفية أن قضايا الحسبة أصبحت تعنى في الوقت الراهن مصادرة حرية الرأى والإبداع، مؤكدا أن هناك جهادا ضد المبدعين باستخدام قضايا الحسبة التى أخرجها البعض من كتب الفقه الإسلامى واستخدموها فى غير ما أراد الفقهاء.

ولفت وزير الثقافة السابق أن مفهوم الحسبة والمحتسب تطور فى القرنين الثامن والتاسع عشر لتطول عددا من الكتاب منهم نجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد، وفنانين مثل عادل إمام، مؤكدا في سياق حديثه أن قضية نصر حامد أبو زيد تعد نموذجا صارخا لقضايا الحسبة التى شهدتها مصر فى العقود الأخيرة.

ويرى النمنم أن الاستبداد السياسى أو الدينى أو الاجتماعى يستهدف قمع الحريات، ضاربا المثل باغتيال الكاتب فرج فودة عام 1992 على أيدى متشددين، ومحاولة اغتيال الروائى نجيب محفوظ عام 1994 لاتهامه بالإساءة إلى الإسلام فى أعماله، موضحا أن الحسبة أساسا للدفاع عن الحق العام.

إرباك المحاكم

في السياق يرى الأديب إبراهيم عبد المجيد، أن الحسبة تراث قديم انتهى زمنه، كانت تطبق على القبائل والعشائر، ثم تطورت وأصبحت نوعا من إعاقة الإبداع وإرباك المحاكم، ولا بد أن تنتهى.

والسؤال لماذا تصادر الأعمال أو توقف أصلا وهى غير موجهة إلى أحد بالذات، وهذه الأعمال سواء أدبية أو فنية ليست مفروضة على أحد ولا تقدم للناس قسرًا ولا جبرًا، وللجميع حرية الإقبال عليها أو الإحجام عنها، لذلك يجب أن تسقط هذه القوانين التى تربك الحياة الثقافية ونكتفى بالقانون المدنى الذى يحافظ على الحقوق فى القضايا الأخرى.

الحسبة ليست من القانون

يرى الدكتور محمد نور فرحات، الفقيه الدستورى، أن القانون المصرى ليس فيه ما يسمى بقانون الحسبة، وأن هناك نصا فى قانون المرافعات ينص على أن رافع الدعوى لا بد أن تتحقق له مصلحة شخصية، ومنذ عدة سنوات أضيف لها نص آخر بخصوص الدعاوى المطالبة بالحقوق العامة، بحيث لا ترفع إلا بمعرفة النيابة العامة، وعلى ذلك فأى شخص يرفع دعوى لا تحقق له مصلحة شخصية يقضى بعدم قبولها.

ولفت فرحات إلى أن الدستور الحالى الذى تم الاستفتاء عليه أفضل بكثير مما سبقه فيما يتعلق بحرية الفكر والإبداع مع وضع الضوابط التى تقضى بعدم المساس بالأمن القومى، وهذا ما تنص عليه المواثيق الدولية.

 

 

وقف ترخيص «إبداع»

في جلسة 7 إبريل 2009، حكم القضاء الإداري برئاسة المستشار الدكتور محمد أحمد عطية «نائب رئيس مجلس الدولة» رئيس محاكم القضاء الإداري، بإلغاء ترخيص مجلة إبداع، التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب وما يترتب على ذلك من آثار استنادا إلى أن هذه المجلة نشرت قصيدة شعرية قيل إنها تسيء للذات الإلهية.

وجاء في أسباب الحكم أنه ولئن كانت الصحافة حرة كل الحرية في أداء رسالتها، إلا أن ذات النصوص التي منحتها تلك الحرية هي التي وصفت تلك الحرية بأنها الحرية المسئولة لخدمة المجتمع التي تجد حدها الطبيعي في عدم إساءة استعمالها بما يمثل افتئاتا علي المقومات الأساسية للمجتمع، والتي تتضمن الأسرة والدين والأخلاق والوطنية وغير ذلك من ركائز المجتمع وقيمه التي لا تنفك عنه أبدا ليحيا سليما معافى من كل داء.

أقيمت الدعوى من قبل المحامي سمير صبري، واختصمت أحمد عبد المعطي حجازي، بصفته رئيس تحرير مجلة إبداع.

اختصاص أصيل للنيابة العامة

من جهته أكد مصدر قضائي أن قضايا الحسبة تم العمل بها من قبل.. ولكن تم تعديل القانون بمناسبة الدعاوي التي أقيمت ضد الراحل د.ناصر حامد أبو زيد، أستاذ الفلسفة الإسلامية من بعض أعضاء التيارات الإسلامية التي اتهمته بالكفر والإلحاد.

وأضاف المصدر أن أعضاء تلك التيارات أقاموا دعوى تطالب بتطليق زوجة "أبو زيد" منه أمام محكمة الأسرة لاتهامه بالكفر والإلحاد، خلال عهد الرئيس السابق حسني مبارك، إلا أن المشرع تدخل وقام بتعديل قانون المرافعة بحيث لا يجوز للأفراد إقامة الدعاوى بطريقة مباشرة وإعطاء ذلك الحق للنيابة العامة بعد تقديم بلاغ أو طلب رسمي لها.

وأوضح أنه لا يمكن تطبيق ذلك النظام بنجاح في مصر، لأن النيابة العامة هي صاحبة الاختصاص الوحيد في ذلك لما لها من خبرة قانونية ولضبط الأمور حتى لا تتكدس المحاكم بالقضايا.

تربص بالمبدعين

يقول المحامي طارق نجيدة، إن حق الشكوى مكفول في القانون وفقاً للدستور، لأي شخص يتأذَّى من فعل أو تصرف أو قول آخر، ومن حقه أن يشكوه في صورة بلاغ للنائب العام، ولا يوجد نص قانوني يمنع عنه ذلك الحق.

ويوضح "نجيدة" أنه في المقابل يوجد بالقانون ما يسمى بالتعسف والإساءة في استخدام حق الشكوى وحق التقاضي، وذلك للتصدي للأشخاص الذين لا شاغل لهم غير شكوى المبدعين والصحفيين والإعلاميين بحجة الدفاع عن قيم المجتمع، لأنهم بذلك يضرون بالأمن والسلم المجتمعي بالإضافة إلى تشويه صورة مصر الخارجية.

وعن آلية مقاضاة من يسيء استخدام حق الشكوى، يوضح نجيدة أن النيابة العامة هي الجهة المنوطة في معاقبة هؤلاء، بعد أن تحفظ بلاغاتهم الواهية والجائرة، التي تتربص بالمبدعين، وتوجه لهم تهم البلاغ الكاذب، وتكدير السلم والأمن العام.

ويضيف محامي الحريات أن سلوك هؤلاء المحامين الذين يتربصون للأشخاص وتقديم بلاغات ضدهم، يوحي بأنهم مدفوعون من قبل جهات معينة لتحقيق غايات ومصالح معينة، وليس بدافع الحفاظ على قيم المجتمع كما يدعون.

ويختتم المحامي الحقوقي أنه قديما كان يوجد في القانون بما يسمى بقضايا الحسبة، والتي كان الغرض منها الدفاع عن الشريعة الإسلامية، وأموال المسلمين، متابعاً بأن تلك القضايا لم تعد موجودة اسماً، ولكنها ما زالت موجودة في نصوص القانون تحت مسميات أخرى مثل ازدراء الأديان وتكدير السلم المجتمعي.

 

قانون لاغ

يقول د.محمود كبيش عميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة، إن قانون الحسبة ألغى منذ سنوات، ولكن هناك اصطلاحا على أن القضايا التى يقيمها أى شخص حسبة لله وليس لتحقيق مصلحة أو لدرء خطر خاص به، وإنما يقيمها لمصلحة أو لمنع ضرر قد يقع على المجتمع تسمى قضايا الحسبة.

وأضاف د.كبيش أن الدستور أطلق حرية الفكر والإبداع بما لا يتضمن تحريضا على عنف أو إرهاب، ولا ننسى النص الذى يجعل مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، وبالتالى فأى عمل أدبى أو فنى يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية يمكن أن ترفع ضده دعوى قضائية والمحكمة هى التى ستحكم.

 

ليست للعوام

من جانبه يوضح د. أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهرن أنه ينبغى فهم أن الحسبة فى الأمور العامة لا تكون للعوام لأنها نوع من أنواع الولاية فيمن عهد إليه بالأمور الدينية، لذلك يشترط فيمن يقوم بها الكفاءة والعدالة والعلم والقدرة، ويجب أن تكون فيما يتصل بالمعروف حسب الدرجات التى تنظم ذلك، لأنها أمور دقيقة يتعلق بعضها بحقوق الله وأخرى بحقوق البشر، وبينهما أمور مشتركة، وأخرى بالعقائد والعبادات وهى حق لمن عندهم العلم بهذا.

شارك الخبر على