غواية القراءة عندما يقرر الكاتب أن يدلي بشهادته التي تحمل ضداً فكرياً واجتماعياً

حوالي ٦ سنوات فى المدى

|       16         |
 علي حسين
لقد ساعدتني  القراءة كثيراً في تأليف كتابي. فكل الكتب  التي قراتُها منَحتني أفكاراً وخواطر للكتابة. ولولا الكتب، ما كان لي أن أكتب كتاباً قصصياً الآن.جوناثان سويفتحين كنت في العاشرة من عمري وقعت بيدي مجموعة قصص للأطفال كتبها كامل كيلاني، ومثل أي صبي شعرت آنذاك أن هذه القصص، كتبت لي وحدي،  كان منها مجموعة بعنوان قصص ألف ليلة وليلة وأخرى تحت عنوان  روبنسن كروزو ومجموعة  رحلات جليفر، أتذكر منها " جليفر في بلاد العمالقة " و " جيلفر في بلاد الأقزام " وكانت هناك قصصاً أخرى لاتسعفني ذاكرتي الآن تذكرها.كان الإحساس الاول وأنا أطالع هذه القصص التي امتازت برسوماتها الملونة، هو الشعور بأنني جزء مما يرويه الكاتب، فمرة أكون صديقاً لعلي بابا، ومرة أضحك على المواقف التي تصادف جحا، ومرات أجد نفسي مختنقاً وأنا أتابع مصير جيلفر في بلاد الأقزام .أيام كنت قارئاً مولعاً بالقصص المصورة ، كان اسم كامل كيلاني  يتكرر في معظم الكتب التي كنت أطالعها، وبعد ذلك بسنوات عرفت أن كيلاني يعد رائداً من رواد كتابة القصة للأطفال والفتيان،  حتى أن طه حسين كتب مقالاً يضعه فيه بمصاف الدنماركي "هانز كريستان آندرسن "، ويخبرنا عميد الأدب العربي، أن اندرسن مثل كامل كيلاني عاش حياته وهو يبحث عن الحكايات ليعيد صياغتها.كان كامل كيلاني المولود عام 1897،  شغوفاً بالحكايات الخرافية وهو يقول في كتيب صغير عن تجربته في كتابة قصص الأطفال إن " الأسطورة كانت دعامة حياتي، ويرجع هذا الى أنني ولدت في أحضان جبل المقطم، وكنت الابن الرابع عشر في العائلة، ولم يظفر في الحياة سواي، نشأت في جو صحراوي يعبق بالأساطير والأغاني، فألفت منذ طفولتي العزلة، وفلسفتي في هذا إنني لا ارتبط بالعالم  إلا من خلال الكتب." ، كان  الدنماركي   هانس كريستيان أندرسن يضع على بطاقات ورقية برنامجاً للقراءة ، يسجل من خلالها قائمة الكتب التي عليه أن يطلع عليها. نشأ هانس كرستيان آندرسن في جزيرة جنوب الدنمارك – ولد عام 1808- والده اسكافياً ، كان يعشق الكتب   يقرأ في المساء لابنه الصغير بصوت عال حكايات لافونتين  ومسرحيات شكسبير، وعلى عكس الأب، كانت الأم  تؤمن بالسحر والخرافات ويكتب هانس في يومياته إنه،  كان طفلاً حالماً غريب الأطوار، و حينما كان يمشي في الطرقات يغمض عينيه، لذلك كانت الناس تظن إنه مصاب في عينيه .كان هانس في طفولته لايوحي بأمل كبير، فهو صبي غريب الأطوار، عصبي المزاج، معتل الصحة، لم يحب المدرسة التي تركها بعد أن تعلم القراءة والكتابة، ليعمل في أحد مصانع النسيج، وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره اتخذ قراره النهائي بالرحيل الى العاصمة كوبنهاكن بحثاً عن الشهرة والمجد.  في العاصمة التي وصلها نهاية عام 1819 لم يجد أبواب المجد مفتوحة أمامه، فقد كان يحمل معه نصاً مسرحياً إلى أحد المسارح، ليجد الجواب:" نظراً لما يتضح في كل صفحة من صفحات هذه المسرحية من جهل فاضح بالمبادئ الأولية للعلم والثقافة، فان من المستحيل بالنسبة لأي مسرح أن يصنع منها شيئاً يستحق العرض على الجمهور ". على أن السنوات التي تلت هذا الفشل  كانت حافلة ايضا بالخيبات، فبعد أن قضى تسعة أشهر في تعلم الغناء، خذله صوته، بعدها توجه لكتابة الشعر فاستقبله النقاد بحملة من السخرية. بعدها جرب حظه في كتابة الرواية فكتب ثلاث روايات حققت بعض النجاح، لكنها لم تنقله إلى الشهرة، فقد ظل أديباً من الدرجة الثانية،يكتب في دفتر يومياته :" في تلك السنوات كنت أحاول أن أقلد غيري، ولكني في لحظة ما قررت أن أكون نفسي. أن أكون هانس كرستيان آندرسن ".كان ذلك عام 1835 حين أصدر أول مجموعة من القصص الخيالية للاطفال، وما إن صدرت حتى حققت نجاحاً كبيراً وترجمت إلى معظم اللغات الأوروبية، لينشر بعدها مجموعته الثانية والثالثة ، عام 1841 ينشر المجموعته السادسة، حيث بلغ مجموع الحكايات التي قدمها للأطفال 156 حكاية اشتهرت فيما بعد باسم " حكايات  هانس كريستيان أندرسن  ".كان آندرسن يستلهم قصصه الخيالية من مصادر كثيرة، من ذكريات طفولته، من تجاربه في الحياة ورحلاته، ومن الطبيعة التي عشقها ،  ولهذا حملت قصصه مسحة عميقة من الحزن والألم، وتطلعاً دائماً إلى السعادة والأمل، وعطفاً بالغاً على الفقراء والمحرومين، كما يتضح في حكايته الشهيرة " بائعة الكبريت الصغيرة " التي تموت في ليلة عيد الميلاد متجمدة من البرد، بعد أن فشلت أعواد الكبريت التي تبيعها في تدفئتها، وهي تحلم بمتع الحياة المحرومة منها في الوقت الذي يحتفل فيه الناس بالعيد.قبل وفاته بأيام قال آندرسن لأحد معارفه:": " إن حياتي كلها برغم صعوبتها لم تكن سوى حكاية جميلة ". الآن بعد كل هذه السنوات أسال نفسي  ما الذي استفدته  من القراءة عندما كنت صبيا، لقد أطلقت هذه الكتب العنان لمخيلتي، ومنحتني عالما جميلاً، منسجما، وايا كانت مكاسبي من القراءة، فانها ستظل الشيء الوحيد  الذي لايزال يسحرني ،  يكتب هنري ميللر إن الخيال هو طريقة غير مباشرة للاقتراب من الحياة، ولإكتساب رؤية شاملة للكون ".************عندما قرأت رحلات جليفر للمرة الأولى، كنت أحسبها مجرد رحلة مسلية لأحدهم في بلاد العمالقة تارة، وفي بلاد الأقزام تارة أخرى، خصوصاً أن هذه الرحلات تزدان  بالرسوم  الجذابة، مثل أي كتاب بخصص للاطفال  فقط.كان جوناثان سويف في التاسعة والخمسين من عمره عندما قرر نشر كتابه " رحلات جليفر "، ويخبرنا انه بدأ كتابة رحلاته الغريبة  عام 1714، وكان هدفه من الكتاب السخرية من العالم المحيط به، يكتب في رساله إلى أحد اصدقائه:" إن أدب السخرية كالمرآة يكشف فيها الناظرون عادة وجوه الآخرين لاوجوههم. ولعل هذا تفسير للقول الذي يلقاه هذا النوع من الأدب في العالم، وفيه تفسير أيضاً لقلة من يجد فيه مثاراً لغضبهم ". كان سويفت أممياً في تفكيره  ومع أن ميوله الدينية والسياسية كانت محافظة، إلا أن كتبه وخصوصاً رحلات جليفر  تسببت في كثير من الإحراج للكنيسة الانكليزية وللحزب المحافظ الذي كان ينتمي اليه . ورغم إنه تعرض للنقد من اصدقائه داخل الحزب المحافظ، إلا أنه قرر أن يقدم شهادته الأدبية تعبيراً عن ضميره الاجتماعي.ولد جوناثان سويفت عام 1667 من أبوين انكليزيين في آيرلندا، وأمضى هناك الجزء الاكبر من حياته، حيث تلقى تعليمه الجامعي في إحدى كليات دبلن، وعندما بلغ الثامنة والعشرين من عمره قرر أن يصبح من رجال الدين، وفي تلك السنوات نشر كتابين هما، معركة الكتب، تناول فيه الجدل الذي أثير آنذاك حول الأدب المعاصر والأدب الكلاسيكي، وكتاب  قصة برميل،  وفيه يتعرض إلى سوء استخدام الانسان للمعرفة والدين. بعدها يُعين إسقفاً لكاتدرائية سانت باتريك، وفي هذه الفترة نراه يتخذ موقفاً متشدداً من الحرب الانكليزية الفرنسية، ويكتب المقالات ضد حزب الأحرار الذي شن الحرب ضد فرنسا، وعندما تسلمت حكومة المحافظين السلطة وسعت إلى إيقاف الحرب نشر كتاباً بعنوان " سلوك الحلفاء " ساند فيه معاهدة السلم مع فرنسا، بعدها تبدأ المرحلة الثانية من حياة سويفت وفيها ساند الشعب الإيرلندي في مطالبه بالاستقلال، وأصبح فجأة معبود الإيرلنديين، وفي تلك الفترة بدأت مرحلة الانتاج الأدبي ليتوجها برحلات جليفر التي تعد انضج مؤلفاته وأكثرها عمقا، وقد اعتمد في كتابته على قراءات عديدة للأدب الكلاسيكي، ويصنف النقاد رحلات جليفر على إنها عمل مأساوي، حيث المأساة في نظر سويفت في اللاعقلانية  التي تسود تصرفات الإنسان، وقد كان سويفت يبني قناعاته على فلسفة العقل  وقيمتها الأساسية في تحديد سلوك البشر، وقد كتبها سويفت تحت تأثير اعتقاده الراسخ بأن رؤية الذات ومعرفتها على حقيقتها ستؤدي في نهاية الأمر إلى السلوك السليم، وكان هدفه من رحلات جليفر كما يخبرنا في يومياته هو " إصلاح العالم "، وهو يؤمن بنظرية أرسطو  التي تقول إن جوهر الإنسان ، يكمن في روحه العاقلة، وكما قال الفيلسوف الانكليزي جون لوك،  والذي كان معاصراً لسويفت فإن قانون الطبيعة هو قانون العقل : " ولاتُنظم أمور الإنسان  إلا عندما تطابق النظم الاجتماعية، نظرية الطبيعة البشرية الحقة ".وقد كان سويفت يتألم  لأن الأنسان لايستغل قدراته العقلية أحسن استغلال، بل إنه يتصرف وكأنه أقل بكثير من مستواه العقلي، والمشكلة التي واجهت سويفت هو اختيار القالب المناسب للموضوع الذي يعبر عن أفكاره، ووجد الحل في ادب الرحلات  جليفر  الذي اتخذ منه وسيلة للتعبير عن أفكاره ووجهة نظره في المجتمع الانكليزي، حيث نجده يسخر من عالم السياسة  ومن رجال السلطة والحكم ، ومن النظام الملكي الذي يتهمه بالفساد والنفاق ونشر الدسائس والمؤامرات.يصرح جوناثان سويفت بأن غايته من كتابة رحلات جليفر  هو أن : " يوبخ الناس ويقرعهم، لا أن يُسليهم ويرفّه عنهم ". يبدأ الكتاب على لسان جليفر الذي يروي لنا طفولته  ونشأته واحترافه لمهنة الطب وركوبه البحر على متن أحد السفن طبيباً لركابها، ويخبرنا سويفت أن جليفر شخصية مستقلة  يجب أن لانخلط بينها وبين المؤلف ، وهو كما يقول نموذج للمواطن الانكليزي من الطبقة المتوسطة، لايتميز بقدرات عقلية هائلة، لكنه شجاع وواسع الحيلة:" لقد كنت أريد أن أقدم شحصية قريبة من ذهن القارئ " ، وتوصف رحلات جليفر بأنها سلسلة من الرحلات الفلسفية  تتسم بالإثارة أحياناً  وبالخيال أحياناً كثيرة. والكتاب أيضاً رحلة استكشاف في خفايا النفس البشرية يكتب جورج اورويل  إن : " رحلات جليفر تنقل القارئ من حالة الرضا التام المبني على الجهل الذي يتصف به الإنسان أحياناً الى حالة الرفض التام الذي يتبع اكتشاف الحقيقة  ، ويخبرنا أورويل أن والدته كانت تقرأ له في الأمسيات صفحات  من الرحلات. ونجده عام 1940 يكتب مقالاً  بعنوان " السياسة في مقابل الأدب.. فحص رحلات جليفر"  يمتدح فيه فهم جوناثان سويفت العميق لمفهوم الشمولية :" يتمتع سويفت برؤية مسبقة واضحة بصورة غير عادية للدولة البوليسية المستندة  إلى تفشي التجسس ومحاكمات الخونة ومطاردات المنشقين التي لاتنتهي بهدف القضاء على التذمر الشعبي  وذلك عن طريق تحويله الى هستيريا الحرب وجنونها ". إلا أن أورويل يؤكد في مقاله الى أن رؤية سويفت العميقة الى شرور الشمولية  لاتجعل منه مؤمناً بالديمقراطية أو كارهاً للطغيان. إضافة الى أنه لايظهر أي تحمس للدفاع عن العدالة الاجتماعية ويعزو أورويل السبب الى كره سويفت للحكام والمحكومين على حد سواء. ويرى أورويل أن سويفت يصوّر لنا نواة الدولة الشمولية بكل معانيها، ففي المجتمع الذي يصوره سويفت في رحلات جليفر تختفي الحرية تماماً كما يتجمد التطور، إلا أن أورويل يأخذ على سويفت إنه كان جزءا من هذا النظام الشمولي. في الوقت نفسه نجد الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند رسل في مقاله عن " رحلات جليفر "  يقارن سويفت بتولستوي  فيكتب إن سويفت شأنه في ذلك شأن تولستوي يشتركان في الإيمان بانه ليس في إمكان الإنسان تحقيق السعادة، ويتهمهما رسل إنهما يضيقان بالمعارضة، ويخفيان نزعة نحو التسلط . إلا أن أورويل برغم وصفه لسويفت بالرجعية إلا أنه في نظره ،  متمرد يحطم المقدسات، وبأنه مع محافظته ينزع الى الفوضوية:" نحن على حق عندما ننظر إلى سويفت  على أنه متمرد يسعى إلى تحطيم  المقدسات التقليدية ،  إنه محافظ نخبوي،  يحتقر السلطة دون أن يؤمن بالحرية ، في حين يرى بوضوح أن الارستقراطية القائمة ، ارستقراطية منحلة تستحق الاحتقار ".تخبرنا السيرة الذاتية لتشارلز ديكنز ، إنه كان يقرأ باستمرار " رحلات جليفر " ويكتب في يومياته:" كان من الصعب عليّ التفكير بكاتب أعشقه مثل جوناثان سويفت بهذه الطريقة. شكسبير بالتأكيد، ربما جين أوستن  جميع هذه الاسماء محتملة..  لكني ما زالت كل يوم أزداد إعجاباً بسويفت".************عندما أجلس لكتابة كتاب لا أقول لنفسي  سوف أنتج عملاً فنياً أكتبه، لأن هناك كذبة ما أريد فضحها، حقيقة ما أريد إلقاء الضوء عليه، وهمي الأول هو أن أحصل على من يستمع، لكن ليس بإمكاني القيام بمهمة تأليف كتاب ، لو لم تكن تلك تجربة جمالية، إن أي أحد سيهمه فحص عملي، سيجد أنه حتى عندما يكون دعاية سياسية صرفة، فإنه سيحوي الكثير مما سيعتبره سياسي محترف غير ذي صلة .جورج أورويل يجيب أورويل عن سؤال حول بداياته الأدبية فيقول:"  منذعمر مبكر أيقنت إنني سأكون كاتباً، وقد كانت طموحاتي الأدبية مرتبطة بشعور العزلة التي كانت تسيطر عليّ، وامتلكت القدرة على التعبير بالكلمات، والطاقة على مواجهة الأحداث غير السارة، فخلقت بذلك عالماً خاصاً بي أهرع إليه عندما تؤلمني مصاعب الحياة".ولد جورج أورويل واسمه الحقيقي " اريك هيو بلير " في البنغال أيام كانت جزءاً من الهند التي تخضع للنفوذ البريطاني  ،  يوم 23/5 من عام 1903 وكان والده يعمل موظفاً في إدارة مكافحة الأفيون، وأمه ابنة تاجر خشب فرنسي، بعد عودة عائلته إلى انكلترا دخل مدرسة إعدادية خاصة، بعدها يختار كلية  إيتون ، وكان الكاتب الشهير الدوس هكسلي أحد أساتذته، لكنه يقرر فجأة أن يترك الدراسة ليرحل الى بورما للعمل في " الشرطة الملكية " ، هناك يكتشف المعاناة التي يعانيها البورميون من جراء الحكم الانكليزي، فيكتب عنها رواياته " أيام بورمية "، بعدها يقرر السفر الى فرنسا، ثم يعود إلى انكلترا حيث يعمل في مكتبة لبيع الكتب. ويسجل هذه الفترة من حياته في كتابه " متشرد في باريس ولندن "، وعندما تندلع الحرب الأهلية الاسبانية يذهب الى برشلونة حيث يكتب من هناك  تحقيقات صحفية لمحطة البي بي سي ،  ونجده يلتحق  بالحزب العمالي للاتحاد الماركسي، ويشترك في القتال مع القوات الجمهورية، يصاب  في منتصف عام  1937 بجروح، ليعود الى انكلترا فيصدر عام 1938 كتابه " وفاء لكتلونيا " يروي فيه أسباب انفصاله عن حركة اليسار، عام 1943 ينضم الى هيئة تحرير صحيفة الأوبزرفر  ، يتولى كتابة تقارير سياسية وأدبية، سنة 1945 تنشر روايته " مزرعة الحيوان، التي بيع منها ملايين النسخ  وترجمت الى معظم اللغات، وقد حققت له هذه الرواية الشهرة والثروة، ورغم أن مرض السل تفشى في جسده إلا أنه استطاع عام 1948 تكملة روايته الاخيرة 1984 ، ليرحل عن عالمنا بعد عامين من نشر الرواية عام 1950 وهو يبلغ من العمر ستة وأربعين عاماً.كان أول اسم  مقترح لرواية جورج أورويل " 1984 " هو " الرجل الأخير في أوروبا ". يقدم لنا أورويل في روايته هذه عالماً يحكمه نظام شمولي، وتدور أحداث الرواية في لندن التي يسميها أورويل " دولة اوشانيا العظمى " حيث تدير شؤونها أربع وزارات ، هي وزارة الصدق ومهمتها تزييف الحقائق، واتلاف الوثائق التي تذكر الناس بالماضي، ووزارة السلام تتولى شؤون الحرب والإعداد لها، ووزارة الرخاء ومهمتها تخفيض الحصص التموينية المخصصة للأفراد، ووزارة الحب التي تُعنى بحفظ النظام وتنفيذ القوانين. في الرواية ترافقنا صورة "الاخ الاكبر " في كل مكان، وهي صورة لوجه ضخم  بشارب اسود كثيف ،  وكتب تحت الصورة " الاخ الأكبر يراقبك "  ، ووسيلة الدولة في مراقبة الناس  تتلخص في استخدام شرطة الفكر دوريات بطائرات هيلوكوبتر  تقترب من النوافذ وسطوح  المنازل بهدف التجسس على كل السكان  . تبدأ أحداث الرواية عندما يقرر مواطن اسمه " ونستون سميث " يعمل في وزارة الصدق،  أن يدون مذكراته. ونجده بعد تردد وخوف ينفذ الفكرة  فيبدأ بتسجيل أفكاره  ، ويكتب في الصفحة الأولى : " 4 شباط 1984 ذهبت الليلة الماضية إلى السينما  التي لاتعرض شيئا غير أفلام الحرب. كان ونستون يكره الحزب وشعاراته وجواسيسه، ولم يكن يستطيع أن يمنع نفسه من تذكر أيامه الماضية، قبل أن يتولى الحزب حكم البلاد، حيث كان الإنسان يحظى بالخصوصية  ولم يكن خاضعاً للمراقبة،. وأخذ ونستون يختلس فترات من السعادة من وراء ظهر الحزب، ونجده يتعرف على فتاة اسمها جوليا تعمل في قسم تأليف الروايات، يجمعها الحب ، إضافة الى شعور بالتقزز والكراهية للحزب الحاكم ، ونوع الحياة المفروضة عليهما وعلى سائر المواطنين. كانا يحملان معا حنيناً إلى عالم حر، والى ماضٍ كان جميلاً. وسرعان ما تتحول علاقتهما إلى علاقة محظورة، علاقة حب ملأى بالمشاعر، والأحاسيس وجدها ونستون تستيقظ في أعماقه فجأة، لم يكن يتخيل أنها موجودة داخله من قبل، واستمرا في لقائهما سراً يتحدثان عن العالم، ويتبادلان الحب في غرف سرية. ثم يبدأ ونستون التفكير بـصديقه  " أوبراين"، وهو أحد أعضاء الحزب الذي يشعر ونستون أن ولاءه للحزب ليس تاماً، فقد شك ونستون أن أوبراين ينتمي الى أخوية شديدة السرية والغموض تعمل ضد الحزب، ولكن لم يكن اعتقاد ونستون يمت إلى الواقع بصلة، فبعد أن أمسكت أجهزة الأمن بالعاشقين، أُخذا إلى " وزارة الحب"،  من أجل الاستجواب، ليجد ان   أوبراين  يشرف بنفسه على التعذيب، فانهار ونستون بعد أشهر، ليخون نفسه ويخون جوليا . ويستسلم لعملية غسل الدماغ، ويتعلم أن يحب الأخ الأكبر فقط وألا تكون له أي مصالح أو مشاعر فردية، ولا يفكر بشيء، لم يسمح له الحزب الحاكم بالتفكير فيه. وعندها يطلق سراحه، ويعتبر مواطناً مثالياً، ولم يعد خطراً على المجتمع.يجمع نقاد الأدب ، الى أن الروسي " يفغيني زامياتين " هو أول من كتب الرواية التي تفضح اساليب الحكم الشمولي ، عندما قرر نشرروايته " نحن " عام 1924، التي  سرعان ما منعت . تدور أحداث رواية زامياتين في دولة يقودها شخص اسمه " المحسن الكبير " وفي هذه الدولة نجد كل مواطن خاضعاً لرقابة الآخرين، فجدران البيوت شفافة ، بل إن الناس جميعاً، يعيشون تحت قبة زجاجية ضخمة تعزلهم عن الطبيعة الخارجية بكل تفاصيلها. أما أسماء الناس، فقد استبدلت بأرقام بحيث أن لكل فرد رقماً خاصاً به. وبطل الرواية رجل يحمل الرقم  503 وهو مهندس كلّف بالمساهمة في بناء مركبة فضائية ضخمة  يراد لها أن تخترق  فضاءات هذا العالم كي تنشر في العوالم الخارجية الدعاية الخاصة بدولة المحسن الأكبر . غير أن الرقم 503  سرعان ما يقع في غرام امرأة جميلة يتبين  فيما بعد أنها تنتمي إلى جمعية تحاول مقاومة سلطة المحسن الاكبر  ، وسوف تقود المرأة هذا البطل إلى عالمها وتضمه إلى جمعيتها السرية بعدما جعله هيامه بها مدركاً وضعه الحقيقي وحقيقة تلك الدولة التي يخدمها.منعت رواية زمياتين ، وبدأت المضايقات تطارده عبر حملات أجبرته على المكوث في بيته . وفي العام 1931، يتدخل  مكسيم غوركي فيطلب من ستالين السماح لزمياتين بمغادرة البلاد.  حيث يتوجه إلى فرنسا ليعيش فيها  السنوات السبع الأخيرة من حياته  مخلفاً لنا واحدة من أفضل روايات الأدب الاحتجاجي . يكتب  جورج أورويل:" لقد حاول زمياتين أن يجعل نفسه مكشوفاً تماماً.. وهذا ما يجعل منه شخصية تتجاوز السلبية في ذلك البنيان  المسيطر على الأفراد. لقد شعر بوضوح أن العالم يعيش في أزمة، ومن هنا قرر أن يدلي بشهادته  التي تحمل ضداً فكرياً واجتماعياً ".

شارك الخبر على