بين سنغافورة والعراق، دروسٌ ومفارقات!

حوالي ٦ سنوات فى المدى

 لويس إقليمس
حكاية علي بابا والأربعين حرامي، وإنْ كانت من صنع الخيال، إلاّ أنها ذات أبعاد أخلاقية واجتماعية لا تخفى على أحد. بل إنّ كلّ مَن يمرّ بجانب الساحة التي تتوسط التمثال الرمز لهذه الحكاية وسط بغداد، يتذكر ما يجري في البلاد من كارثة تعيدنا إلى زمن حرامية بغداد في وصلة مظلمة من الدهور الماضية. إلاّ أنَّ ما يميّز دهاقنة السرقات التي تجري اليوم في أيام الفرهود العراقي المفتوح في عزّ الليل والنهار وأمام مسمع ومعرفة الدولة، حكومة وشعباً وقضاءً ومراجع دينية وعلمية وأخرى اجتماعية، أنَّ هذه السرقات ليست بحاجة بعد إلى كلمة السرّ المعروفة "إفتحْ ياسمسمْ"، لأنّ خزائن الدولة وثروات البلاد وعقاراتها وممتلكات العباد أصبحت مشاعاً لمَن تسلّقَ السلطة بكلّ الوسائل المتاحة، "شبه الديمقراطية" منها أو التي شاع فيه أشكال التزوير باستخدام شتى الفنون وأصناف الجنون. "لي كوان يو"، سياسيّ من سنغافورة، يُعتبر باني هذه البلاد الصغيرة بعض الشيء، والتي لم يكن لها ذكرٌ في التاريخ بين الشعوب المعروفة، إلاّ بكونها من أفقر بلدان آسيا. لكنها بفضله، علتْ شأناً وتسلّقت أعلى درجات الرقيّ في كل شيء، في البشر والحجر، في الاقتصاد والخدمات، في العلم والثقافة وما سواها من رقيّ وتطوّر إلاّ في الفساد. فقد قرّر هذا السياسيّ النزيه، مع الفريق الذي تولى سلطة الحكم الذاتي في البلاد ضمن الاتحاد الماليزي في 1959، حتى طردها من الاتحاد المذكور وإعلان الاستقلال في 1965، أن يغيّر وجه البلاد وينقلها من دولة نامية تقبع في حضن العالم الثالث إلى دولة متحضرة ومتقدمة في اقتصادها يُحسب لها حساب في مصاف الدول العظمى. كانت تركة البلاد ثقيلة آنذاك، لكنْ بفضل الحكومة النظيفة التي تولّت السلطة فيها، تمكنت من تنظيف البلاد من أدران التخلف والفساد، حيث البداية الحكيمة كانت من أعلى قمة الهرم، أي من المسؤولين في الدولة نزولاً للأدنى في القاعدة. كانت نظرة "لي كوان يو" إلى الفساد، أنّ التنظيف الداخلي لمعالجة هذه الآفة يجب أن يبدأ من فوق الدرج أي من الأعلى، بالماء كي يجرف الأوساخ الطارئة في طريقه. وهذا كان غير ممكن إلاّ من خلال البدء من أعلى قمة هرم السلطة. وبذلك تمكنت حكومته من اقتلاع الأوساخ الكبيرة بجرف مدمني الفساد وكشف الفاسدين فيها وإرسالهم إلى حيث ينبغي أن يكونوا في غياهب قنوات الصرف الصحي. لقد تيقّنَ هذا الرجل المعجزة من أنّ تنظيف الدار من القاعدة أي من صغار الفاسدين واللصوص، إنّما هو مضيعة للوقت والطاقة معاً، ولن يأتي بالنتيجة الحاسمة. فصغار اللصوص، إنّما يقتدون دوماً بالكبار الذين يديرون اللعبة ويوجهون اللاعبين الصغار ويحمون وعّاظ السلاطين ومَن على شاكلة هؤلاء من المتفذلكين والمنتفعين والمتزلفين والمنفذين لأجندات الأسياد والمعلّمين الكبار. وبذلك قطع دابر الفساد في بلاده، ولم يسلمْ من التحقيق والتدقيق كلُّ "حديثي النعمة" من الذين ظهرت عليهم مظاهر الثراء الفاحش فجأة. وبذلك وضع حدوداً ونهاية إعجازية لظاهرة الفساد واللصوصية، وكان منها مقولتَه: "حينما يسير اللصوص في الطرقات آمنين، فهناك سببان: إمّا النظام لصّ كبير أو الشعب غبي أكبر". ويُقال إنّ "لي كوان يو"، استخدم في فترة حكمه أقصى أنواع الصرامة والمحاسبة بحق المقصّرين والسارقين والمرتشين لغاية تنظيف البلاد تماماً من أمثالهم. وهناك قصص واقعية تستحق التذكير وأخرى مؤلمة حصلت لمَن سمح لنفسه بالانزلاق في فخاخ الفساد ومصادره. فمَن سوّلت له نفسه ممارسة رذيلة الفساد والرشى، كانت له الدولة بأجمعها بالمرصاد، وكان مصيرُه السجن أو اختيار طريق الاختفاء والانتحار عوض العيش ذليلاً طيلة حياته. وهذه الأخيرة وغيرُها، تُظهر صحة ما ذهب إليه هذا السياسي الوطنيّ النزيه الناجح في سياسته المتوازنة من أجل صناعة دولة ذات هيبة وسيادة تتمتع إدارتُها السياسية بأقصى أنواع نظافة اليد ونزاهة الفكر ورجاحة العقل وجدارة العمل.ما أشبه ما يمرّ به العراق اليوم، ليس منذ الغزو في 2003 فحسب، بل منذ نشأة الجمهورية العراقية التي قضت على المَلَكية النزيهة حيث كان فيها رجالات عظام يهتمون بأمر البلاد والشعب، بعيون ساهرة وعقول صاحية وآذان مصغية لصوت الشعب. فهل ننتظر أمثال هذا الرجل النزيه في يده، الرصين في عقله، القويّ في إرادته، العادل في محاسبته لكلّ أشكال الفساد في العراق؟ بين فترة وأخرى يطلع علينا مسؤولون في الدولة العراقية، ومنهم نواب الشعب الذين خذل معظمُهم مَن أصعدَهم من مواطنيهم إلى هذه السلطة التشريعية كي يكونوا صوتَهم الصادح ضد المظالم والفساد والباطل، وهم يتفاخرون بما أنجزوه من قرارات وقوانين تحفظ لهم ولمَن في السلطة امتيازات ليس لها مثيل في أرقى دول العالم التي تعتمد النزاهة والجدارة والعمل المثمر الجادّ لصالح الوطن والمواطن. فهل يُعقل أن يتبجّح بعض هؤلاء المسؤولين بتسلّمهم أكثر من مليار ومئتين وخمسين مليون دينار منذ دخولهم ما يُسمّى بالجمعية الوطنية ولغاية صدور قانون في 2012 يمنع تقاضي عدة رواتب أجازها البرلمان؟ ناهيك عن امتيازات شرائح عديدة أخرى تتقاضى مرتبات خيالية متعددة أجازتها مثل هذه القوانين التعسفية التي أثقلت كاهل الميزانية العراقية في كلّ سنة مالية منذ السقوط الدراماتيكي والغزو الطائش في 2003.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على