الأغبر بن يوسف

حوالي ٦ سنوات فى المدى

فيصل لعيبي
في حياة العاملين في الثقافة وحقولها الإبداعية حكايات وقصص ومحطات مختلفة وأحياناً متناقضة، سطرها لنا التاريخ أحياناً بموضوعية وأخرى بتحيّز. كما إن بعض العاملين في هذه الحقول، يمارسون دورهم في هذه الحكايات سلباً وإيجاباً ، حسب توجهاتهم المختلفة وتقلباتهم وميولهم ومواقفهم وعواطفهم وأخلاقهم المتنوعة و مصالحهم وتناقضاتها.

قد تكون حكاية الشاعر العربي مالك إبن الريب واحدة من تلك الحكايات الممتعة والمأساوية معاً، للذين يتورطون في قضايا غير قادرين على الحفاظ عليها أو إنهم تبنوها لأسباب غير الأسباب المعلنة.
فقد ذهب هذا الشاعر مع جيوش المسلمين المتجهة الى العراق والشام طمعاً بالغنائم وليس إيماناً بالدين الجديد. وكان واضحاً وصريحاً في نواياه واهدافه، وهذا ما عكسته قصيدته اليتيمة التي ألقاها على صاحبيه في الرحلة، عندما أحس بقرب المنية، حيث يقول فيها، كما أتذكر، لأني أكتب من الذاكرة وليس أمامي النص :
" ياصاحِبَيْ رحلي قد دنى الموتُ فإنزلا
بوادي الغضى نسجي القلاص النواجيا
خــــذاني فـــجراني ببردي إليــــكــــما
فقد كنت قبل اليوم صـــعب القياديا
وخطا بأطراف الأسنة موضعي
وردا عليَّ طَرْفَيْ رِدائِيا
تذكرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجد
سوى السيف والرمح الرديني باكيا. "
إنه يعرف جيداً مشاعر القوم نحوه، فهو لم يتوجه لهذه الحرب بنفس هدف القوم، ولهذا لم يجد غير السيف والرمح يتعاطف معه، وكان محقاً وعادلاً وأميناً، فلم يشمت بهم ولا لعن اليوم الذي إلتقاهم فيه ولم يعب عليهم خططهم أو توجهاتهم أو يسّخِف مبادئهم. لقد إختار طريقه دو إكراه وتقبل مصيره دون جزع.
لقد إخترت أربع حكايات مماثلة لشعراء عراقيين من القرن العشرين والسنين الحالية من القرن الواحد والعشرين. لكن حكاياتهم تختلف قليلاً عن حكاية مالك ابن الريب، لأنها تطوّرت الى مواقف مختلفة وحتى معادية للسيرة السابقة لكل منهم.
كان الشاعر ورائد الحداثة العربية في الشعر الحر، الراحل بدر شاكر السيّاب شيوعياً وقد أبدع أفضل قصائده تحت تأثير تلك الأفكار والمبادئ وقدم لنا أعمالاً مبهرة بناءً على قيمه الثورية تلك. لكنه وبسبب ظروف مختلفة إنقلب على الحزب الشيوعي وكتب مقالات شهيرة وشامتة ضدالحزب ورفاقه، فصارت تلك الكتابات مسيئة له أكثر من إساءتها للحزب الذي تركه، وقد جمعها الصحفي والكاتب ماجد السامرائي في ثمانينيات (71- 80) القرن الماضي في كتاب وصدرت في حينها. ومما هو جدير بالتنويه إن أبا غيلان قد ندم علي ما فعله وأرسل الى الحزب ندمه وإعتذاره، وقد قرأت في صحيفة (طريق الشعب) العلنية آنذاك قصيدة قد أهداها بدر الى الحزب وقد تكون تلك القصيدة إشارة لندمه إن لم أكن خاطئاً و التي مطلعها :
" يامرعب الظالمين الطغاة وياخير من جاز درب الحياة "
كان السيّاب قد تصور أن إنتقاله الى الجهة المعادية للشيوعية والشيوعيين ستنفعه ربما في تدبير مصاريف الدواء والعلاج وكذلك تقديمه كصوت مهم من أصواتها الإبداعية، إلا أن ظنه خاب، تماماً وكانت مجازاته من قبل أنظمة تلك الجهات، التي ناصرها السيّاب، أن طردت عائلته من السكن الذي تقطنه، بحجة تغيبه عن الدوام، وعاد في تابوت من الكويت الشقيق الى البصرة يرافقه الشاعر الكويتي النبيل علي السبتي الذي دفع نفقة السفر من ماله الخاص. والسيّاب لم يختلق الحوادث ليبرر غضبه وإنفعاله وحتى خروجه ذاك، فربما قد تعرض لإستفزازات من بعض شعراء الحزب وكذلك مضايقات بعضهم وشعر بشيء من التفرقة بينه وبين غيره من الشعراء، فتوصل الى قناعة أخرى وقرر الإعتماد عليها وترك قناعاته السابقة وهذا مؤسف طبعاً، لأن يحدد الملتزمم بقضية موقفه منها بناءً على تسلكات غير مقبولة من قبل بعض الأشخاص، ليتوقف عن إنتمائه وإلتزامه ومن ثم ينتمي الى الطرف المعادي لإنتمائه السابق.
أما الشاعر الثاني، فكان الراحل يوسف الصائغ، الشاعر المرهف والهام في تجربة الشعر العراقي المعاصر. فقد غيّر قناعاته أيضاً وانتقل الى الجهة الأخرى المقابلة والمعادية لتوجهاته السابقة التي سجن من أجلها وقضى وطراً من شبابه داخل معتقلات حزب النظام الذي تحول إليه. ومن الغريب أن يختار يوسف الصائغ قصيدة مالك إبن الريب نفسها ليصدرديوانه الأشهر " إعترافات مالك إبن الريب " و الأغرب أن ترد كلمة " إعترافات " وكذلك كلمة " البراءة " في هذا الديوان " أن مالك يفترض البراءة " ولو بدلالات أخرى ولكنها ذات رنين مؤثر عند الأذن العراقية وخاصة اليسارية منها. غير أن يوسف لم يشتم ولم يحمّل أحداً وِزْرَ إختياراته الأخيرة والتي ظل مخلصاً لها ودافع عنا حتى النهاية فرحل عنّا دون أن يسيء لرفاقه القدامي بكتابات أو تصريحات غير مسؤولة.
يأتي الثالث وهو الشاعر العمودي البارز الراحل عبد الرزاق عبد الواحد، حيث تحوّل أيضاً من الشيوعية الى البعث وأخذ يطيل المدائح والإجلال لسيده الجديد. وظل حتى آخر أيامه الأخيرة،محافظاً على موقفه من النظام السابق وسيده صدام حسين، إلا انه لم يشتم أيضاً من كان رفيقاً لهم يوماً ما ولم يتجند للتشهير بهم ولم يعرف عنه انه كتب شيئاً ينافي تلك الرفقة بحق من عرفهم وعاش معهم وكابد ما كابدوه من الأنظمة التي توالت على حكم العراق.
أما رابعهم، فقد بز الجميع في قذارته وغبائه وحقده وكراهيته التي تعكس روحاً مشوهة ونفسيةً مبغضةً بإمتياز.
شخصياً لم تكن لي صلة بهذا الرابع منذ كنت في العراق ولم تتوطد علاقتي به حتى عند مجيئه الى لندن وإستقراره بها. لكني كنت معجباً بقصيدة له هي " سالم المرزوق " والتي لحنها الفنان المرهف طالب غالي قبل سنوات، فصرت أطالبه بها كلما سنحت الفرصة في اللقاء بالعزيز طالب كي يسمعني لحنه الذي صاغه لكلماتها.
كانت أول مرة أشاهد فيها هذا الشاعر عام 1973، عند زيارتي لمجلة التراث الشعبي العراقية. وكنت وقتها أعمل رساماً في مجلة (ألف باء) العراقية، حيث إقتضت ضرورات العمل الصحفي المرورعليها، كان جالساً في غرفة فيها أشخاص آخرين، على طاولة وبيده كتاب يقرأ فيه حيث تم نقله من دائرته السابقة الى هذه المجلة. فسلمت على الموجودين و هو من ضمنهم ولم أتبادل الحديث معه أصلاً.
في إحتفالية الحزب الشيوعي بالعيد الأربعين لميلاده عام 1974. شكّل الحزب لجنة لمتابعة نشاطات فقرات الفعالية، من كتب للطبع وبوسترات أوبطاقات دعوة ومعرض تشكيلي وكذلك تحضيرات الفرقة الموسيقية والمغنين والشعراء وغيرها. كانت حصتي رسم البوستر الذي تصدر الفعالية وهو صورة للرفيق فهد حاملاً الراية الحمراء. وكذلك بطاقة الدعوة التي كانت على شكل مخلوق أسطوري نصف بشري ونصف حيواني على طريقة الثور الآشوري ومجسمات جدران بابل، يحمل فانوس التنوير بيده. و كنت ضمن لجنة المعرض التشكيلي نهيء الأعمال الفنية ونتابع الكتالوك، وانا في هذ الزحمة، سلمني أحد الرفاق رسالة أرسلها هذا الشاعر الى رفاق لجنة الإحتفالات، وهي رسالة مقتضبة لكنها ودودة وفيها تواضع يطلب منهم تزيين ديوانه(تحت جدارية فائق حسن) " إن أمكن " حسب عبارته التي خطها بيده في رسالته تلك وكان الديوان مرفقاً مع الرسالة، إضافة الى ديوان آخر هو (قصائد للحزب والناس) وهو عبارة عن قصائد منوعة شعبية وفصحى لمجموعة من الشعراء العراقيين، وهو أيضاً، يحتاج الى غلاف ورسوم داخلية. فأشرت للذي سلمني رسالة صاحب ديوان (تحت جدارية....) أن يعطي الديوان لفناننا الكبير صلاح جياد، تقديراً لقامته الفنية ونظراً لأن اسم استاذنا الخالد فائق حسن يزين اسم الديوان وهو من أقرب تلاميذه وأخترت أنا ديوان قصائد للحزب والناس.
ولم ألتقِ بـ إبن يوسف حتى خروجي من العراق متوجهاً الى باريس للدراسة. ثم دارت الدوائر بالعراقيين وتشتت الرفاق وضُرِبَ الحزبُ وخرج من خرج حفاظاً على سلامته العقلية والبدنية والأخلاقية.
عام 1981 إلتأم شمل المثقفين العراقيين الديمقراطيين في بيروت وشكلوا رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقين في الخارج (ركصفدع) وصار إبن يوسف سكرتيراً عليها، فوصلتني منه رسالة خطية من عدة أسطر، يشيد فيها بجهودي في المجال التشكيلي ويعتبرني إسماً مهماً و يدعوني للمساهمة في الكتابة الى مجلة الرابطة (البديل) التي تعد الرابطة العدة لإصدارها قريباً، فساهمت على قدر الإمكان وبمواد مختلفة بين الكتابة والرسم أو الخبر الثقافي، فكتبت لهم مادة عن الفنان الراحل كاظم حيدر وشاركت في ملف المنفى الذي أعدته المجلة وبإشراف الصديق حسين كركوش وكذلك نشرت المجلة بوستراً لي عن السجين السياسي العراقي وبعض التخطيطات في ملف البصرة وحول مادة (البصرة جنة البستان) للشاعر الراحل الصديق مهدي محمد على.
عام 1987 عقد المؤتمر الثاني لرابطة الكتّاب في دمشق، وكنت أحد المندوبين إليه قادماً هذه المرة من فلورنسا، بعد أن تركت باريس، وصلت دمشق مع الأصدقاء مندوبي إيطاليا الى المؤتمر، فوجدت دعوة شخصية لي من هذا الشاعر نفسه لزيارته في قبرص، حيث يعيش ومعها عملة قبرصية هي ثمن الفيزة التي علي دفعها عند وصولي الى مطار نيقوسيا، مازلت محتفظفاً بالعملة التي وصلتني منه، وقد أبلغني بالدعوة الشاعرالراحل شريف الربيعي مع تسليمي تلك العملة وتعليقاً ساخراً من شريف حولها والذي يعرف شريف سيتنبأ بما قاله عن الشاعر وعملته القبرصية. إلا اني لم أستطع الذهاب لزيارته بسبب محدودية زمن بطاقة العودة الى فلورنسا وضيق الوقت لإنشغالي بحيثيات ما بعد المؤتمر، كوني أصبحت عضواً في الهيئة القيادية للرابطة.
وبعد الحرب الأهلية في لبنان وإنتقال العراقيين الى دمشق وصلتني رسالة أخرى من الشاعر إياه يطلب مني أن أساهم في رفد مجلة (المدى) التي أصدرتها مؤسسة المدى العائدة للصديق فخري كريم. إذ عيّنه الأخ فخري سكرتيراً للمجلة، وأيضاً فيها إشادة بي وبمنجزي التشكيلي. لكني لم استطع المساهمة فيها، لأنشغالاتي آنذاك بأمور أكثر أهمية من الكتابة الى مجلة، مع إن هذا السكرتير قد نوّه الى أهمية المجلة والمؤسسة وضرورة أن اكون أنا من المساهمين فيها لأنها حسب قوله من المجلات الثقافية العربية الهامة.
ثم " دار الزمان وصاركومة حجار " كما يقول الخالد وديع الصافي، وإذا بإبن يوسف أمامي في لندن. فبُذِلَتْ الجهود من قبل الجميع كي يستقر وأن لا يرى مكروهاً أو عائقاً وكان الحزب في مقدمة من وقف له وساهم رفاقه في بريطانيا في تسريع قبوله كلاجئ، بحيث لم يتركوا وسيلة نافعة لم يستخدموها وأوصلوا قضيته حتى للبرلمان البريطاني، فنال اللجوء أسرع من أي أمير أو ملك كان قد لجأ الى بريطانيا من قبل.
زارني إبن يوسف الى شقتي المتواضعة،ولم تمضِ أكثر من أسابيع على وصوله الى لندن، فقمت له بالواجب كما تحتمه عليَّ أصول الضيافة وعلى قدر المستطاع فقضينا وقتاً نتبادل فيها الأفكار والمواقف والمشاريع. وكان هناك عدد من الأصدقاء أيضاً، ففهمت منه وقتها في أنه و صاحبه عبد الحسين الهنداوي وكان حاضراً معنا، ينويان عقد مؤتمر للمثقفين العراقيين في أوروبا، وكذلك برلمان للمثقفين، يكون صوتهم في حالة تغيير النظام في العراق.
عند عقد المؤتمر جاءتني دعوة منه، يؤكد فيها تبني القوى التقدمية للمؤتمر، لكني لم أحضر مؤتمر إبن يوسف وصاحبه،لأني لا أثق بما ينويان القيام به، و هذا ما حصل، فقد خربه إبن يوسف في يوم الأفتتاح بشجاره مع الشاعر الصديق فاضل العزاوي. وانتهى مؤتمره بفضحية تشبه فضائحه الأخرى، مع إن العديد من مثقفي عراقنا قد حضروا وتكبدوا عناء السفر من أماكن بعيدة. وقتها كتب قصيدة مثل النداء لتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا آنذاك والمساهم الثاني في تدمير العراق، يدعوه لغزو العراق وتغيير صدام حسين.
بعد مؤتمره الفاشل ذاك بفترة، دعاني وزوجتي عائشة الى شقته في ضواحي لندن مع مجموعة من الأصدقاء كان من بينهم الصديقين ماكي وزوجها صامويل شمعون صاحبي مجلة بانيبال وكذلك الصديقة ليلي الطائي والراحلة تحرير السماوي إضافة لصديقته الأولى أندريا. كان صمويل بطل الجلسة بمبادراته في شواء اللحم وتحضير السلاطات وإسباغ نوع من الطرافة على الجلسة. وعند عودتي الى البيت كتبت له رسالة على شكل خاطرة مع شكري له على الدعوة، فرد علي! بالقول" ان الخاطرة التي كتبتها عن جلستنا يافيصل، قطعة شعرية لا يقدر عليها الكثير ممن يكتبون الشعر حالياً " وقد أعتبرتها مجاملة بروتوكولية منه وقتها.
جاء الإحتلال وسقط النظام ودمر العراق ومؤسساته، فتشكلت مجاميع أوروبية وعربية للتنديد بالإحتلال وبما حصل لعراقنا المبتلى، وقد رتب الحكم الجديد على قواعد الطائفية والمحاصصة، ولم تحصل التغييرات التي كان هذا الشاعر ينتظرها وذهبت وزارة الثقافة التي كان يعتقد، أنها ستكون من حصته وكان مؤتمره الفاشل الذي عقده مقدمة لها، فأنقلب على عقبيه وصار من دعاة المقاومة " الشريفة " وأخذ يسب ويلعن ويوزع التهم يميناً وشمالاً.
دعيت الى برلين لحضور فعالية (المعادلة العراقية) المعقودة هناك، وهدفها التنديد بالإحتلال وإدانة ما حصل خلال غزو العراق من تدمير وخراب ونتائج سياسية هي في غير صالح العراقيين. وكان هذا الشاعر إضافة للشاعر الراحل سركون بولص من ضمن المدعوين، فإلتقينا ثانية وجرت أحاديث كثيرة ومختلفة حول هذه الكارثة، ثم ضيّفنا الشاعر الراحل الصديق مؤيد الراوي في بيته وكانت الجلسة مع مؤيد من أمتع الجلسات وقد اكرمتنا زوجته السيدة فخرية صالح وقامت بالواجب حقاً، و ساهمت فخرية بعد ذلك في المناقشات التي دارت في تلك الفعالية محتجة على الطريقة التي تم فيها تدمير البلد وما حل به.
بعدها ذهبنا الى برشلونة بدعوة من مؤسسة الفنان الإسباني المعروف أنتونيو تابييس، ولنفس الهدف، وكان إبن يوسف موجوداً أيضاً وبعد إنتهاء هذه الفعالية الإحتجاجية، قرر أصدقاؤنا في المدينة، الراحل ماهر جيجان، حميد المشهداني وعلاء معروف إكرامنا والبقاء أسبوعاً إضافياً للتعرف على المدينة ومحتفين بنا أيضاً، وخلالها أسمعني كلمات غير ودية، متهماً أياي بالتعاون مع البعثيين، لكني رددت عليه، فأعتذر لي أمام الأصدقاء وقتها.
عند العودة الى لندن ظهرت فكرة تشكيل تجمع للمثقفين العراقيين طرحها بعض الأصدقاء ودعيت الى إجتماع عقد في غرب لندن حضره عدد غفير منهم. وقد اصبحت ضمن الهيئة التحضيرية للتحضير لعقد مؤتمر قريب فكتبت لهذا الشاعر حول الموضوع بإعتباري من الذين تم إختيارهم للإتصال بالمثقفين. فرحب بالفكرة وأصر على أن أكون أنا من ضمن اللجنة التي ينبثق منها اللقاء المنتظر، لأن وجودي ضروري كما قال لي.
وخلال هذه الفترة إزدادت كتاباته الهجومية والإنفعالية، التي ينتهك فيها أبسط أصول اللياقة والأدب، وصار يهاجم أقرب الناس له، وأخذ ينتظر أي نشاط ثقافي عراقي عام خاصة للديمقراطيين واليساريين والشيوعيين حتى لو كان عن الطب البديل أو معرض فني، ليعلق عليه ويتهمه بالعمالة والتبعية لهذه الجهة أو تلك. فلم يسلم منه أحد.
وخلال تلك المهاترات والرد على كتاباته من قبل الذين هاجمهم، إلتقيته في مناسبات مختلفة، وقد قلت له بالحرف الواحد بأن ما يكتبه يسيء له أكثر مما يسيء لغيره، إلا إنه كان يلوي عنقه ولا يرد على كلامي.
في إحتفالية مجلة بانيبال ومؤسسة القطّان بمناسبة بلوغه الثمانين من العمر، دعاني الصديقان ماكي أوبام وصمويل شمعون لها. فذهبت ومعي باقة ورد، وقد إلتقيت هناك بالصديقة إقبال محمد على، بعد فراق دام اكثر من أربعين عاماُ وفرحنا ببعضنا وكانت قادمة من كندا. وقد شكرني هذا الشاعر على باقة الورد وأعلن من منصة الفعالية لجمهور الحاضرين عن إسمي ومشيراً الى باقة الورد بإمتنان، وتزامناً مع هذه الفعالية كانت المجموعة الكاملة لأعماله الشعرية قد صدرت من قبل دار الجمل، التي يملكها الصديق خالد المعالي، فأقتنيتها بأجزائها السبعة، فخط الشاعر بيده لي ولزوجتي عائشة كلماته بعبارات مثل : " الى عائشة وفيصل مع الأعتزاز " أو مع " التقدير" أو " مع التحية والتقدير " وفي الصفحة الأولى من كل جزء.
بعد نهاية الأمسية، ذهبنا لأقرب بار وقضينا بقية السهرة. وقد تبادلنا العديد من القضايا ودعوته لحوار لمجلة الثقافة الجديدة، وكان الفنان الصديق يوسف الناصر حاضراً تلك الجلسة وتحمس للفكرة، لكن الشاعر تملص بطريقته التي يعرفها الأخرون.
إزدادت حدة هجومه على اصدقائه بالذات خاصة ضد أولئك الذين عاش معهم الأيام الصعبة، متهماً إياهم بالعمالة والإسترزاق وقبض الرشاوى وغيرها من التهم الباطلة والملفقة على الأغلب وأخذ يكتب في صحف معروفة في إرتباطها بفكر وحزب النظام السابق أو التي كانت تعتمد عليه مالياً. وكان يستقي معلوماته من الشائعات و (القشبة) وبعض المشاكل الشخصية التي تؤدي أحياناً الى لصق التهم بمجانية عجيبة. وكنت عندما التقيه أعاتبه على ما يكتبه ولكنه لايرد على عتابي إلا بزيادة هجومه على الآخرين، فكففت عن نصائحي له، بعد أن تجاوز الحد وأصبحت كتاباته هستيرية لا يجمعها منطق ولا تؤيدها الوقائع وصار يبارك الإرهاب ويتحدث عن العشائرية ويمتدح القوى الظلامية وتفجيراتها هنا وهناك.
تعرض لي اكثر من مرة، وانا أضحك في سرّي على هذه الإستفزازات، ولا أعلم هدفها، لأني لا أنافسه في شيء، فهو شاعر كبير ومعروف والأبواب تفتح له أين ما حل ولا يحتاج ان يهاجم شخص ضعيف مثلي، لم يكن يوماً من خصومه ولا من منافسيه أو أصدقائه ولم تجمعنا حادثة تنتج منها ما يجعله كارهاً لي. كانت كتاباته عني متدرجة في مستويات الهجوم، فمرة نعتني بعملي في الحراسة في سفارة اليمن الديقراطية وكأن الحراسة عمل مشين، ومع إني لم أعمل حارساً يوماً ما في أي مكان، لكني أتشرف بها كعمل حتى لو كانت حراسة مراحيض عامة، لمَ لا ؟ مادامت تدر عليّ رزقاً حلالاً. ثم إرتفع الهجوم الى كوني فنان متخلف وجاهل، بعدها مرتشياً من قبل صاحب دار المدى الصديق فخري كريم، والذي كان يعمل معه وتحت إمرته في أيام الشام ويمتدحه أيضاً، و ذلك بسبب مشاركتي الى جانب الفنان الصديق يوسف الناصر، في ندوة عن الفنان الخالد جواد سليم أقامها المقهى الثقافي العراقي في لندن الشهر الماضي بمناسبة مرور 57 عاماً على رحيله، لكنه زاد حقده وغضبه وتطوّرت هستيريته، عندما زارني صاحب المدى وزوجته الكريمة غادة العاملي في مرسمي، فطالب بالقبض على مسؤوله السابق ومدير عمله صاحب المدى، مضيفاً نعتاً جديداً لي هو : " فنان فطري تافه ".
لا أدري الى أين سيصل هذا الشاعر بهذه التسلكات وكيف سينتهي مصيره !!؟؟
كيف يمكن لشاعر يدعي الثورية والتقدمية والمعاصرة، أن ينعت شعباً مناضلاً وجسوراً خاض غمار حروب ومعارك مع اعتى الدكتاتوريات وما يزال مثل الشعب الكردي وأرضه بـ (قرد ستان) والتي لم يصل لهذا المستوى حتى هتلر ولاالفاشيات التي ظهرت بعده ، وكيف لشاعر أن يحط من قيمة الشعر الشعبي العراقي وشعرائه ويعتبرهم سبب الخراب الذي عم العراق، وهم الذين أدخلوا الوعي الثوري للجماهير تنويرهم بمصالحهم ودفعهم للثورة على الطغيان وألم يقل يوماً : " أضع جبين الشعر كله تحت قدم قصيدة (الريل وحمد) لمظفر النواب، هل فقد ذاكرته؟ وكيف ينعت الأدب الشعبي بهذه النعوت وكل روائع الفنون والآداب خرجت من عباءات الفنون الشعبية لبلدان العالم ؟ يبدو أنه يجهل ان شاعر إيطاليا الأعظم دانتي أليجري قد كتب(الكوميديا الإلهية) باللغة المحكية والمحلية في إيطاليا آنذاك، فصارت من بعده لغة إيطاليا الرسمية، وأن موسيقى موتزارت وبتهوفن وجايكوفسكي وكورساكوف جورج بيزيه وحتى سترافينسكي، مستمدة من الموسيقى الشعبية لأوطان هؤلاء العباقرة.
هل يمكن لإنسان عاقل أن يجتاز كل ما قام به من نشاط ونتاج أدبي معتبر متجاهلاً تاريخه السابق وتاريخ مرحلة مجيدة، كي يقف منتشياً وسط هذا المستنقع الآسن الذي يزيده يوماً بعد يوم عفونة حتى تكاد تغطيه أوتغرقه ؟لقد تدهور الوضع في العراق منذ عقود خلت وتدهورت معه الكثير من القيم النبيلة والمفاهيم التي كانت الواعز الأساس للعديد من مبدعينا الكبار، وصارت النميمة والفحشاء والكلام البذيء هو المسيطر على المشهد العام لديهم، وتم إلغاء المسؤولية والإلتزام والحرص على التاريخ الشخصي أوالعام وتحول الى قضية خاسرة لدى هؤلاء. وهذه مشكلة تحتاج الى وقفة جادة ودراسة معمقة، كي نخرج من هذا الكهف الذي بدأ يكلكل بظلامه الدامس على الجميع أو يكاد.
مؤسف حقاً ومحزن أيضاً أن لا نجد ما يشغلنا حالياً غير مثل هذه الكتابات، بينما البلاد والعباد في مفترق طرق ومصير مجهول ومحاطون بخراب عام وهدم متعمد وتدمير مقصود من أطراف عديدة وقوى مختلفة، تحتاج الى قوة حازمة لإيقافها،وهذا الشاعر يفتش عن حب البطيخ الأحمر في (....) كما يقول المثل العراقي الشهير أو يتصيد بمياه زنخة وقذرة خانقة، وينغمر بصراعات تافهة وشخصية وملفقة، ناسياً العاصفة التي ستجرفنا جميعاً فيما لو لم نستعد لها.
ماذا فعلت بنفسك يا أغبر يا ابن يوسف وكيف سوَّلت لك نفسك لتنتج كل هذه القذارات وتلقيها على أقرب الناس لك وأحرصهم على قيم العراق الأصيلة، وماذا ستجني منها غيرالإحتقار،ألم تتعض بمن سبقوك ؟؟؟.

لندن في 14 / 02 / 2018

شارك الخبر على