عبد الناصر «في سبيل الحرية».. ماذا فعل به السجن خلال ساعات قليلة؟

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

إذا بدأ قارئ العدد (653) -يناير 2018- من السلسلة الشهرية "كتاب اليوم"، الصادرة عن "دار أخبار اليوم" الذى يحمل عنوان: "فى سبيل الحرية.. رواية بقلم جمال عبد الناصر"، بالبحث فى سيرة جمال عبد الناصر الذاتية عن تفاصيل فى حياته أثناء دراسته الثانوية ليعرف فى أية ظروف ومؤثرات كتب ورقاته تلك، فسيكون عليه ألا ينساق إلى ما وراء تلك السنوات، وأن لا يخرج بحثه عن نطاق "التحقيق" الأدبى والثقافى -الذى سيمتزج دون إرادته، بالتاريخى والسياسى- فى "اتهام" عبد الرحمن فهمى، للطالب جمال عبد الناصر حسين بأنه "نقل الصفحات العشر من رواية للبارونة أوركيزى"، وهو (القارئ) إذا عرف أن "جمال" التحق فى عام ١٩٢٩ بالقسم الداخلى فى مدرسة حلوان الثانوية وقضى بها عاما واحدا، ثم نقل فى العام التالى إلى مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية بعد أن انتقل والده إلى العمل بمصلحة "البوسطة" هناك، وهناك عرف للمرة الأولى: التظاهر، وإلقاء الحجارة على رجال "البوليس"، وضربهم له، والقبض عليه لفترة وجيزة، فسيعرف (القارئ) أن "جمال" سيعود للقاهرة، ليقيم لدى عمه، ويلتحق  فى عام ١٩٣٣ بمدرسة النهضة الثانوية بحى الظاهر؛ وبذلك يكون قد حدد إطار البحث الزمنى: 1930 - 1935، وإطاره المكانى: الإسكندرية والقاهرة.

وسيعرف من كتاب: "60 عاما على ثورة يوليو- جمال عبد الناصر الأوراق الخاصة- الجزء الأول: جمال عبد الناصر طالبا وضابطا"، إعداد د.هدى جمال عبد الناصر، الصادر عن مكتبة الأسرة، 2015، أن عام ١٩٣٥ شهد نشاطا كبيرا للحركة الوطنية المصرية التى لعب فيها الطلبة الدور الأساسى، مطالبين بعودة الدستور والاستقلال، وأن "جمال" عبر عن شعوره فى تلك الأيام فى رسالة بعث بها لصديقه (حسن النشار) -شهر سبتمبر- بهذه الكلمات: "لقد انتقلنا من نور الأمل إلى ظلمة اليأس ونفضنا بشائر الحياة واستقبلنا غبار الموت، فأين من يقلب كل ذلك رأسا على عقب، ويعيد مصر إلى سيرتها الأولى يوم أن كانت مالكة العالم. أين من يخلق خلقا جديدا لكى يصبح المصرى الخافت الصوت الضعيف، الأمل الذى يطرق برأسه ساكنا صابرا على اهتضام حقه، ساهيا عن التلاعب بوطنه يقظا عالى الصوت عظيم الرجاء، رافعا رأسه يجاهد بشجاعة وجرأة فى طلب الاستقلال والحرية... قال مصطفى كامل: "لو نقل قلبى من اليسار إلى اليمين أو تحرك الأهرام من مكانه المكين أو تغير مجرى [النيل] فلن أتغير عن المبدأ"... كل ذلك مقدمة طويلة لعمل أطول وأعظم فقد تكلمنا مرات عدة فى عمل يوقظ الأمة من غفوتها ويضرب على الأوتار الحساسة من القلوب ويستثير ما كمن فى الصدور، ولكن كل ذلك لم يدخل فى حيز العمل إلى الآن".

ثم سيعرف القارئ (الباحث- المحقق)، من الموقع الرسمى لجمال عبد الناصر، أن قائمة الكتب المنشورة فيه باعتبارها: "الكتب التى كان يقرأها جمال عبد الناصر فى المرحلة الثانوية" كلها لا علاقة لها بالأدب والروايات، لكن د.هدى تضيف أنه (جمال) «فى تلك الفترة ظهر شغفه بالقراءة فى التاريخ والموضوعات الوطنية فقرأ عن الثورة الفرنسية وعن روسو وفولتير، وكتب مقالة بعنوان "فولتير رجل الحرية" نشرها بمجلة المدرسة. كما قرأ عن "نابليون" و"الإسكندر" و"يوليوس قيصر" و"غاندى" وقرأ رواية البؤساء لـ"فيكتور هوجو" وقصة مدينتين لـ"شارلز ديكنز"، كذلك اهتم بالإنتاج الأدبى العربى فكان معجبا بأشعار أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، وقرأ عن سيرة النبى محمد وعن أبطال الإسلام وكذلك عن مصطفى كامل، كما قرأ مسرحيات وروايات توفيق الحكيم، خصوصا رواية عودة الروح التى تتحدث عن ضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم ودفعهم نحو النضال فى سبيل الحرية والبعث الوطني».

لا أثر للبارونة فى هذه القائمة التى ربما تعرضت لـ"تهذيب ممنهج"، لكن سيجد القارئ فى كلمات د.هدى تفصيلة قد يشعر أنها ربما كانت مهمة فى سير "التحقيق"، فقد حكت قصة عن نشاطه ومكانته فى المدرسة، وعن أن مدرسا كلف "جمال" باختيار مسرحية كى تقدمها المدرسة على المسرح، وأنه اختار مسرحية "يوليوس قيصر" لوليم شكسبير، وأن المدرس وزع أدوار المسرحية على الطلاب وأنه اختار أن يؤدى جمال عبد الناصر دور يوليوس قيصر، وأن المدرسة قدمتها فى حفل حضره وزير المعارف وقتها (أحمد نجيب الهلالى).

وقد يشعر القارئ بأهمية أن ينقل عن الموقع والكتاب هذه الفقرات لينتهى من رسم الخطوط العريضة للتفاصيل التى يرى أنها ضرورية لاستكمال (البحث- التحقيق): 

«وفور صدور تصريح "صمويل هور" -وزير الخارجية البريطانية- فى ٩ نوفمبر١٩٣٥، معلنا رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية فى مصر، اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال فى البلاد، وقاد جمال عبد الناصر فى ١٣ نوفمبر مظاهرة من تلاميذ المدارس الثانوية واجهتها قوة من البوليس الإنجليزى فأصيب جمال بجرح فى جبينه سببته رصاصة مزقت الجلد ولكنها لم تنفذ إلى الرأس، وأسرع به زملاؤه إلى دار جريدة "الجهاد" التى تصادف وقوع الحادث بجوارها ونشر اسمه فى العدد الذى صدر صباح اليوم التالى بين أسماء الجرحى». 

وتحت الضغط الشعبى وخاصة من جانب الطلبة والعمال صدر مرسوم ملكى فى ١٢ ديسمبر ١٩٣٥ بعودة دستور ١٩٢٣، وقد انضم جمال عبد الناصر فى هذا الوقت إلى وفود الطلبة التى كانت تسعى إلى بيوت الزعماء تطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر، وقد تألفت الجبهة الوطنية سنة ١٩٣٦ بالفعل على أثر هذه الجهود.

ومنذ المظاهرة الأولى التى اشترك فيها جمال عبد الناصر بالإسكندرية شغلت السياسة كل وقته، وتجول بين التيارات السياسية التى كانت موجودة فى هذا الوقت فانضم إلى مصر الفتاة لمدى عامين، ثم انصرف عنها بعد أن اكتشف أنها لا تحقق شيئا، كما كانت له اتصالات متعددة بالإخوان المسلمين إلا أنه قد عزف عن الانضمام لأى من الجماعات أو الأحزاب القائمة، لأنه لم يقتنع بجدوى أى منها، "فلم يكن هناك حزب مثالى يضم جميع العناصر لتحقيق الأهداف الوطنية"، كما كان "جمال" يقول.
وفى حديثه إلى مندوب صحيفة "الصنداى تايمز" -1962- قال:

وقد دخلت السجن تلميذا متحمسا، وخرجت منه مشحونا بطاقة من الغضب، وقد مضى بعد ذلك زمن طويل قبل أن تتبلور أفكارى ومعتقداتى وخططي، ولكن حتى فى هذه المرحلة الباكرة كنت أعلم أن وطنى يخوض صراعا متصلاً من أجل حريته.
كان فقد أمى فى حد ذاته أمرا محزنا للغاية، أما فقدها بهذه الطريقة فقد كان صدمة تركت فيَّ شعورا لا يمحوه الزمن، وقد جعلتنى آلامى وأحزانى الخاصة فى تلك الفترة أجد مضضا بالغا فى إنزال الآلام والأحزان بالغير فى مستقبل السنين».

شارك الخبر على