خاص لبنان محكوم بالتوافق وهو القاعدة الدائمة لاستقراره واستمراره

حوالي ٦ سنوات فى تيار

بقلم جورج عبيد -
 
لبنان محكوم بالتوافق، ولن يحكم سوى بالتوافق. لقد دلّت التحربة اللبنانيّة بأن تلك القاعدة راسخة وليس سواها من قواعد طاغية. مرّت على لبنان عواصف هوجاء، كادت أن تودي به إلى نهاية عدميةّ لا قيامة منها، وعلى الرغم من وطأتها في ذروتها الهائلة، عاد لبنان إلى الحياة، وترسّخت في بنيته وإن بالحدود الدنيا قيم السلام. 
 
قاعدة التوافق في منهجيّتها وبلاغتها وفي تجلّي أرومتها، تلك الفلسفة الميثاقيّة التي لا حياد عنها ولا فرار منها. هذا بلد مركّب بتعدديّة طوائفيّة ومطلّ بتنوّع سياسيّ ومذهبيّ. نشدان التوليف في بيئة التنوّع بات في اللحظات الصعبة حاجة ملحّة وضروريّة، والتوليف بل "التأليف الحسن" والتعبير للرئيس حسين الحسيني، ميزة فريدة تتعمّم في مفرداتها أنظومة التلاقح الحضاريّ والتناضح الفكريّ، والتلاقي الجوهريّ والقيميّ، بانفتاح إنسانيّ وسياسيّ، وهذا حتمًا من شأنه أن يشكّل وعاءً صلبًا مانعًا من تسلّل الفتن البغيضة بين الطوائف وقد غدا لبنان مسرحًا لها في محطات قضت على خيرة أبنائه وشلّت الحركة الاقتصادية في نطاقه.
 
خطا التيار الوطنيّ الحرّ تلك الخطوات منذ سنة 2006 إلى الأمس القريب. ففي الرابع من شباط من سنة 2006، وقّع التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله ما سمي بوثيقة التفاهم في صالون كنيسة مار ميخائيل الشياح، ونحن في الذكرى الثانية عشرة لتوقيعه. جاء النصّ على متانة واضحة ترجمت التوق نحو التكامل، وقفز من التكامل الحقيقيّ نحو التحالف الاستراتيجيّ، وبلغت الأمور مبلغًا جعلت الحاج حسين خليل يخرج من اجتماع مع العماد عون في الرابية ليصرّح قائلاً نحن جسد واحد. ثمّة تمازج واقعيّ وعميق لم تتوجه النصوص بقدر ما تفاعل في النفوس، وقد قام التمازج على أسس واسعة الاتساق، كسب حزب الله بهذه الوثيقة دعم من يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريته المطلقة، سواءً في مقاومته إسرائيل بشراسة مطلقة، أو في قتاله القوى التكفيريّة بالشراسة عينها، سواءً في الداخل السوريّ أو على الحدود مع سوريا. وكسب العماد ميشال عون دعم  حزب الله، وقيادته لمعركة رئاسة الجمهوريّة متختلفًا مع حليفه ضمن الثنائيّة الشيعيّة الرئيس نبيه برّي الذي رشّح النائب سليمان فرنجيّة... 
 
وبعد انتخاب العماد عون رئيسًا للجمهوريّة ضمن تسوية ميثاقيّة، عبّرت عن تلاقي من يمثلون الوجدانات الطائفيّة بأكثريتها المطلقة، على الرغم من عدم انتخاب نواب حركة أمل له، لفظ الرئيس المنتخَب خطاب القسم، عدّ الركيزة الميثاقيّة الحقيقيّة لبناء لبنان الغد، وتجلّى بروح مشرقيّة واقعيّة أكدت ريادة الرئيس وزعامته لجماعة تكوينيّة في هذا المشرق ومكونة له في مدى ما سمي تاريخيًّا ببرّ الشام. تميّز الخطاب بأنّ صاحبه نحت مفهومين أدرجهما عمدًا في متن الخطاب، وهما "السلاح الردعيّ" على الحدود الجنوبيّة، مؤكّدًا قيمة المقاومة ودورها في قتال إسرائيل ومنعها من القيام بالخروقات على حدودنا، والقتال الاستباقيّ، وقد أدى مؤدّاه في سوريا بأن ساهم بقدرة فائقة من منع تسلّل القوى التكفيريّة إلى الداخل اللبنانيّ، وطهّر بعمليتيّ فجر الجرود وإن عدتم عدنا مع الجيش اللبنانيّ سلسلة جبال لبنان الشرقيّة وهي على الحدود مع سوريا. بمعنى أنّ رئيس الجمهوريّة شرّع بقوّة دور حزب الله القتاليّ والردعيّ، وقد جاء بيان الحكومة برئاسة رئيسها سعد الحريري متمّمًا لخطاب العهد.
 
 
خلال هذه المرحلة، إتجه التيار الوطنيّ الحرّ، نحو صياغة مجموعة تفاهمات سياسيّة وميثاقية مع تيار المستقبل ومع الحزب التقدميّ الاشتراكيّ، ورنا بدوره إلى ترطيب العلاقة وترتيبها مع حركة أمل. من دون أن ننسى ورقة ورقة إعلان النوايا بين التيار الوطنيّ الحرّ والقوات اللبنانيّة، وقد ساهمت بصورة فعّالة بوأد الصدامات بين المسيحيين، وإخراجهم إلى مراحل تجديديّة وتحديديّة في آن تعنى برسوخهم السلميّ والهادئ فيما بينهم، وتقيمهم في أمن وهدوء وسلام، على الرغم من استمرار الخلاف حول عناوين كبرى منها سلاح حزب الله وقراءة الأحداث في سوريا بمعانيها ووظائفها. بمعنى أنّ التيار الوطنيّ الحرّ نسج تفاهمات على قاعدتين ميثاقيّة مع الجميع وبنيويّة على المستوى المسيحيّ. وقد أدرك في عملية الحبك والنسج والنحت في أحيان كثيرة بأنّ لبنان لا يحكم إلاّ بالتوافق الكامل والحيّ والحقيقيّ بين أبنائه والمتحرّك بهم ومن خلالهم لديمومة النظام السياسيّ وتكوين دولة حقيقيّة قويّة وعادلة.
 
في تلك المسيرة التكامليّة، بقيمها الميثاقيّة، اختلف الأطراف اللبنانيّون حول قانون الانتخابات. كان الهمّ صياغة قانون ليس فيه استيلاد مذهب لآخر وطائفة لأخرى. ذلك أنّ التكامل يأبى الاستيلاد ويمجّه بل يلفظه خارجًا. كان هذا القانون تسوية حقيقيّة دمجت بين النسبيّة والصوت التفضيليّ، وهذه تجربة يعيشها اللبنانيون للمرّة الأولى، وللمرّة الأولى يحقّ للبنانيين المنتشرين والمغتربين التصويت في البلدان المتواجدين والمنتشرين فيها.
 
والفضل في كلّ ذلك لرئيس الجمهورية الحريص الأوّل ولوزير الخارجية جبران باسيل، ولا يخفى على أحد بأن حزب الله دعم بقوّة هذا التوجّه كما دعمه رئيس الحكومة سعد الحريري. في المسارات السياسيّة يتوقّع المرء خلافات حقيقيّة في التوجهات والرؤى، لقد اختلف التيار الوطنيّ الحرّ مع حركة أمل على مسائل أساسيّة، جاء تحرّك المياومين تأجيجًا للخلاف. واستكمل الخلاف بعناوين عديدة منها تمديد مهلة تسجيل المغتربين، وصولاً إلى قضيّة مرسوم ترقية ضباط 1994 حيث رأى رئيس المجلس النيابيّ الأستاذ نبيه برّي بأنّ عدم توقيع وزير المال وتجاوزه يبطل دستوريته ويهتك ميثاقيته. رئيس الجمهورية العماد ميشال عون رأى بأن المتضررين من المرسوم يستطيعون اللجوء إلى القضاء ويكون مسرورًا بحال أبطل القرار هذا المرسوم. دخل لبنان حقبة خلاف سياسيّ-دستوريّ-قانونيّ، استخدمت فيه عبارات كان بالإمكان تجنبها حتى لا تتورّم الحالة وتنفجر. فسيادة القانون تبقى الحدّ الفاصل في النزاعات، والمقارعات الفكريّة ضمن نقاش هادئ أفضل بكثير من انفجار العبارات أفقيًّا وأخذ البلد إلى حافة فتنة رهيبة، ومعروف أنّ كلّ الفتن تنتهي بالتسويات والتوافقات. أهمية رئيس الجمهوريّة، أنّه تصرّف تصرّف الكبار ببيان راق وأد فيه نار الفتنة، التي تحدق بلبنان وتحيط به، وجسّده باتصاله بالرئيس نبيه برّي مؤكّدًا أن الكرامة واحدة ولا تتجزّأ. وهذا السلوك كان الثاني من بعد قضائه على المحاولة الأولى بفعل تقديم الرئيس الحريري استقالته من الرياض. وفي الوقت عينه كان رئيس الحكومة سعد الحريري عاملاً أساسيًّا على وأد الفتنة، فيما السيّد حسن نصرالله أمين عام حزب الله، تدخّل بقوة وحزم، ومنع بلوغ لبنان نحو الانفجار الكبير والخطير كما كان مخطّط له. من دون أن ننسى دور اللواء عباس إبراهيم الرصين والوطنيّ الكبير، وما كلام الرئيس برّي خلال لقاء الأربعاء وبيان حركة أمل سوى تأكيد على وأد الفتنة.
 
كثيرون هنا لاحظوا، بأنّ كلام وزير الخارجية الإسرائيليّ ليبرمان حول المكعّب 9 النفطيّ كان مؤشّرًا حقيقيًّا لاعتداء سافر على البلد. وهو موصول بما بالزلزال الأميركيّ الأخير. اجتمعت المواقف كلّها بوجه عدائيّة إسرائيل، وكلّ ذلك ناتج من تخطيط واسع لجرّ البلد نحو فتنة داخلية تستغلّها إسرائيل للاعتداء على لبنان، كما كان متوقّعًا خلال أزمة الرئيس الحريري أن تعتدي إسرائيل أيضًا مكمّلة مسعى وضع الحريري في الإقامة الجبريّة وإرغامه على تقديم استقالته. 
 
على هذا ، وبحسب المعلومات الواردة، إنّ لقاء الثلثاء المرتقب بين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس ورئيس الحكومة يفترض به أن يؤسّس لمرحلة جديدة تنبذ من قاموسها مقولات العزل والنأي، وبحسب مصادر عليمة، سيضيء اللقاء على جوانب أساسيّة من الأزمة باحتواء سياسيّ وامتصاص دستوريّ، تتأكّد فيها المناصفة الفعليّة بين المسيحيين بمذاهبهم والمسلمين بمذاهبهم. وتؤكّد المصادر عينها بأنّ الخوف من ثنائيّة مسيحيّة-سنيّة غير مبرّر ولا قاعدة له على الإطلاق، بدليل أن رئيس الجمهورية مدافع عنيد عن سلاح المقاومة ودوره، والتيار الوطنيّ الحرّ مع رئيسه جبران باسيل وقبل ذلك مع مؤسّسه صاغ تفاهمات عديدة وهو يسعى إلى استكمالها سواء قبل الانتخابات أو بعدها. كلّ القوى السياسيّة محكومة بالتوافق والسير بالاستقرار وعدم التدحرج نحو الانفجار. فبمقدار ما إن الاستقرار حاجة داخلية، فهو حاجة دولية وإقليميّة، وبالتحديد أميركيّة وروسيّة وفرنسيّة. والتوافق بحجمه الداخليّ ووظيفته الراهنة منطلق لإنضاج التسوية السورية على قاعدة تشاركية أكّد عليها بيان المجتمعين في سوتشي.
 
 
يبقى في النهاية أن وحدة الموقف سبيل جوهريّ لمواجهة إسرائيل في حربها النفطية على لبنان وتهديدها الأمنيّ له. وتضيف المصادر بأنّ على الجميع أن يعتبروا مما حصل ما بين ميرنا الشالوحي في سن الفيل والحدث، ولا يتركوا الشارع مزرعة سائبة لشباب طائش يهوى اللعب بالنار ولا يهتف إلاّ لزعيمه وينسى أنّ له وطنًا يفترض أن ينشأ على الطاعة والإخلاص له. فلبنان المسيحيّ حاجة للبنان المسلم، ولبنان المسلم حاجة للبنان المسيحيّ، والعيش الواحد بين المسيحيين والمسلمين هو الهدف حتى نبلغ بعد هنيهات قصيرة أو طويلة إلى ترسيخ دولة المواطنة، ولا شيء سوى المواطنة المولودة من رحم المناصفة الفعليّة ليحيا لبنان.  
 
 

شارك الخبر على