فرادتان يمتاز بهما لبنان الميثاق والحرية (بقلم جورج عبيد)

حوالي ٦ سنوات فى تيار

-جورج عبيد-
بهاء الميلاد ورأس السنة أنسكب أضواء وزينة حلوة في معظم المناطق اللبنانية حذبت اللبنانيين إلى الفرح والرجاء، واحتفل الجميع بالأعياد المباركة، مشدودين في كل الاحتفالات الروحية والدنيويّة إلى جدّة الحياة تنغرس في النفوس والعقول والقلوب. فالإنسان إمّا يصير جديدًا متوثّبًا للضياء وللخيرات الآتية، على قاعدة رسمها بولس الرسول بقوله "الأشياء العتيقة قد مضت ها كلّ شيء قد صار جديدًا"، أو أنه يبقى رهينة الماضويات يتجمّد بحروفها ويتجلّد ببردها القارس، فيبقى إنسان الحرف أي وبتعبير أدقّ نحته الراحل الكبير السيد هاني فحص، "حروفيًّا"، أو يصير إنسان الروح المتجلّي بالفكر المتلاقي مع كلّ فكر آخر والمتلاقح مع كلّ الرؤى المحيطة به وهذا يمكنّه أن يستنبط ما يجعل هذا البلد عالي الجبين راقي الحضور.فرادة لبنان تقود نحو هذا التأمّل. وتجيء تلك الفرادة من التمازج الإناسيّ والإنسانيّ بين المسيحية والإسلام، ومن الديمقراطية التشاركيّة المؤسّسة على الفلسفة الميثاقيّة غير القائمة في الأنظمة العربية والمشرقية المحيطة بنا، والتي ستعتمد كقاعدة واقعيّة ومنطقيّة للتسوية السياسيّة في سوريا. لم يكن ممكنًا لتلك الفرادة أن تبدو جليّة أو تظهر حيّة، أو تكون دائمة الحراك من قبل، فقد ولد النظام السياسيّ، أي نظام الطائف، معطوبًا ومجوّفًا باستبعاد مكوّن رئيسيّ للبنان، أي المكوّن المسيحيّ، وجعله مستولدًا في كنف الآخرين كما كان يقول نائب رئيس المجلس النيابيّ سابقًا الصديق العزيز إيلي الفرزلي.
بسبب هذا الخلل عينًا، خلا النظام السياسيّ من التوازن الموضوعيّ، وحلا لكثيرين أن يتسلذّوا بفلسفة العزل والاستيلاد آملين أن تبقى مقدّرات لبنان الاقتصاديّة والماليّة والإداريّة من ضمن ولايتهم وتحت سيطرتهم. هذه الصورة بالذات تمّ خلعها على ثلاث مراحل واضحة الآفاق والمعاني.
1-المرحلة الأولى، مرحلة التهيئة لانتخاب رئيس للجمهوريّة وما صاحبها من نقاش حام وتشادّ كبير، وتبدّل في المواقع السياسيّة. وقد جاءت من ضمن ما حدث في سوريا وتزامن الحسم في سوريا مع الحسم في موضوع الانتخابات الرئاسيّة.
2-المرحلة الثانية، مرحلة انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية وتأليف حكومة برئاسة سعد الحريري، وقد تميّزت تلك الحقبة بتسوية ميثاقية ترجمت الفلسفة المسثاقيّة على قاعدة تلاقي من يمثّلون الوجدانات الطائفيّة بأكثريّتها المطلقة، وهذه المألفة كانت عنوانًا أساسيًّا لترسيخ الميثاق الوطني على مستوى الانتخابات الرئاسيّة وتكليف رئيس للحكومة وتأليف الحكومة.
3-المرحلة الثالثة، مرحلة إقرار قانون للانتخابات وفي متنه تمّ التزاوج بين الفلسفة الميثاقيّة وقاعدة النسبيّة مع الصوت التفضيليّ، على الرغم من أنّ هذه الفلسفة الميثاقية كان يمكن أن تترجم بمشروع اللقاء الأرثوذكسيّ. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا القانون عينًا أمّن هذا التزاوج بنسب واضحة.في كلّ تلك المراحل لم يحد لبنان عن الأسس الميثاقية المكونة له، وهذا هو مصدر الفرادة. وقد بدأ اللبنانيون يشعرون بأنّ نمطًا جديدًا بدأ يتكوّن منذ سنة إلى الآن، وقد اعاد البلد تدريجيًّتا إلى طبيعته وجوهره، وقاده من جديد نحو حضور ساطع ترجم في لحظتين أساسيتين وخطيرتين:
1-اللحظة الأولة تمثّلت في وضع الرئيس سعد الحريري تحت الإقامة الجبريّة في السعوديّة وإجباره بالتالي على تقديم استقالته. لقد أدّت تلك اللحظة إلى توحيد اللبنانيين على مختلف توجهاتهم ونحلهم ومللهم ما عدا قلّة مارقة ضلّت وساهمت بتكوين تلك اللحظة المسيئة ليس فقط للرئيس الحريري بل لموقعه ودوره وإرث أبيه، وللبنان وما يمثّله هو للبنان. توحّد الجميع حلفاء وأخصام تحت راية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، فانتصر لبنان الميثاق والوحدة على إمكانية أخذه وجذبه نحو الفتنة مع بلوغه الفراغ العبثيّ والقاتل. وعاد الرئيس الحريري إلى لبنان فترسّخ التعاون أكثر فأكثر بينه وبين رئيس الجمورية ورئيس المجلس النيابيّ.2-اللحظة الثانية تجلّت بقرار الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، بنقل السفارة الأميركيّة من تل أبيب إلى القدس، على هذا القرار ثارت ثائرة اللبنانيين مسيحيين ومسلمين رافضين قرارًا جائرًا وقبيحًا من شأنه أن يهزّ الأمن العالميّ ويقود إلى فوضى عبثيّة سيّما أنّ القدس تعني المسيحيين والمسلمين معًا. وحدة اللبنانيين بوجه هذا القرار ترجمت بخطابين بليغيين للغاية وهما خطاب وزير الخارجيّة جبران باسيل في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وقد برهن بأنّه ليس وزير خارجية لبنان فحسب بل وزير خارجية لفلسطين وللعرب أجمعين، وخطاب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في القمة الإسلاميّة في تركيا ظهر على رقيّ عال ومتواصل مع جرح الإنسانيّة فلسطين كاشفًا بأنّ المسيحيين متأصلون في هذه المسألة الحيويّة، والميثاق اللبنانيّ معني بدوره بهذه القضيّة بالذات.
كلّ هذا في حقيقته يدلّ إلى الفرادة اللبنانيّة، وفرادة الإنسان اللبنانيّ، يدلّ على لبنان الفريد بميثاقه وحريته. فلا يسوغ بهذا المعنى التفلّت من هذه القاعدة أو التمرّد عليها بظنّ أو بدون ظنّ، ضمن تأويلات غير منطقيّة للمادة خمسين من الدستور اللبنانيّ، وكأنّ ثمّة ثنائيّة تحاول الإطاحة بمكوّن ثالث جوهريّ وأساسيّ للإيثار والإثارة، فيما رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة لا يزالا ضنينين بالمسلمة الميثاقيّة الصلبة، بلا استئثار ولا اقتسار أو ابتسار. وعلى هذا يتمّ طرح السؤال التالي بالنسبة لدورة ضباط سنة 1949، لو كان وزير المال غير شيعيّ هل كان لهذه المسألة أن تثار، ولم إثارتها في هذا الظرف بالذات الدال على بداية مرحلة جديدة ستقود حتمًا نحو ازدهار اقتصاديّ بفعل دخول لبنان نادي الدول المصدّرة للنفط والغاز وتأتي هذه المسألة بالإزاء مع إضراب المياومين وعمال كهرباء لبنان وكأن ثمّة يدًا خفيّة تحرّك الإزائيّة في المسألتين بغية الضغط على الحكم والحكومة.
الفرادة الثانية أو الميزة الثانية والتي تميّز لبنان بها عن محيطه العربيّ والمشرقيّ أنه بلد الحريات. ثمّة جدلية قائمة وراسخة بين القانون والحريّة، وبين الحرية والفوضى. لقد أحيت قضية استجواب الصديق مارسيل غانم تلك الجدلية بجذب مضمونها نحو هدف واحد عنوانه التصويب على العهد. إنها بحق جدلية ملتبسة بسياق سياسيّ جامد معارض للعهد. تقترض الحرية الإعلاميّة على معدّي البرامج السياسيّة أن يستقبلوا في حلقاتهم من يشاؤون، وهذا الأمر غير خاضع للنقاش. ولكنّ السؤال المطروح بدقة وصدق، لو قرر إعلامي من شبكة TF1 أو شبكة CNN الأميركية استضافة شخصيّة غير فرنسية أو أميركية وقامت بشتم رئيس فرنسا أو أميركا أو نعتهما بالخيانة، هل كان ليمرّ على خير؟ علمًا بأنّ هذه المسألة بالذات لا تمثّل جنحة قانونية بالمطلق أو لها تبعة على المضيف بل تبعتها على الضيف الغريب الشتّام أو الناعت لرئيس البلاد ولرئيس المجلس النيابيّ وقائد الجيش بالخونة؟ غير انّ الخطأ التقنيّ والقانوني بان حين أدلى مارسيل ببيان انتقد فيه القضاء والمدعية العامة السيدة غادة عون.
وعلى الرغم من ذلك، لا بدّ من التنويه بمهنيّة مارسيل غانم المشعّة. وبرنامجه كلام الناس لا يحتاج لشهادة من أحد، فهو منبر حرّ ومميّز وراق، ولا بدّ أيضًا من التنويه بموقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، حيث اعتبر أمام زواره، بأنه مع الحرية الإعلامية بالمطلق، وهي أقدس ما يعبّر به لبنان عن نفسه، ويجب المحافظة عليها برموش العيون. وأردف قائلاً بأنّه بلّغ معاونيه بعدم التعرّض للذين ينتقدون الرئيس وإن بلغ النقد حدّ الشتيمة، لكن حين يتمّ المسّ بالقضاء، فالقضاء خط أحمر، وهو كالحريّة مقدّس والمساس من قبل ضيوف غير لبنانيين بالرئاسة واتهام الرئيس والمسؤولين اللبنانيين بالخيانة فهذا له تبعاته القانونيّة على الضيوف بالدرجة الأولى. هذا العهد مع رئيس الجمهورية يقدّس الحرية الإعلامية وهي جوهر لبنان، وحين يمسّ الجوهر يمسّ الكيان اللبنانيّ بالصميم.
كانت الحكومات في حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم ترتجف من مقال لغسان تويني رحمه الله في الصفحة الأولى لجريدة النهار، لأنها تعلم أنها ستسقط أمام ما يظهره من حقائق. وفي مرحلة الستينيات قمع المكتب الثاني في عهد الرئيس فؤاد شهاب الكتّاب المناوئين للعهد، وفي أواخر الستينيات سقط المكتب وبقيت الصحف اللبنانية وعلى رأسها آنذاك جريدة النهار منبرًا للإحرار والكتاب الكبار. لكن، لا يمكن المقارنة بين تلك المرحلة ومرحلة العماد عون. فالنمط في التعاطي مع الإعلام مختلف مع ذلك النمط، إذ إنّ القمع غير مطروح بل ممجوج. وحين تمّ التعدّي على محطة الجديد بمحاولة تحطيم المبنى هبّ رئيس الجمهورية مدافعًا وأصدر أمره للجيش بالتحرك إلى المبنى وتمّ إلقاء القبض على من حاولوا التعرّض لتلفزيون الجديد. هذا العهد وتلك الحكومة يأبيان المساس بالحرية الإعلامية في لبنان. وقد عبّر وزيرا الخارجية والعدل عن انتصار القانون والحرية بعيدًا عن جدليات مسقَطة تقود نحو مزيد من الالتباس.
الميثاق والحرية عمادا لبنان الجديد. فلا لبنان بلا ميثاق ولا حرية، ولا حرية وميثاق بلا قانون ودستور، فمتى تكاملت الأعمدة في قالب واحد يشرق لبنان بهيًّا عالي الجبين. ومع الرئيس عون المحافظ بإصرار على تلك المقومات سيشرق لبنان بهذا العهد عينًا، كبيرًا عظيمًا عالي الجبين.

شارك الخبر على