«أحمد عُبَيْدَة».. احتراق ونهوض «طائر النار»

أكثر من ٦ سنوات فى الموجز

الوطن - محمد رياض 
إننا قد نبدأ الرحلة متأخرين إلى ديار الشاعر، لكنه سيظل دائماً بانتظارنا.
منذ أن سمعت به للمرة الأولى من سنوات بعيدة، لم أصادف فى الكتب سوى إشارات مقتضبة عنه، كل إشارة كفيلة بأن تفتح باباً هائلاً من الغموض حول الشاعر الذى اختار لنفسه أقوى الميتات، محترقاً بأشعاره، إننا نظل شغوفين بما لا نعرف إلى أن يصبح واضحاً كالمفاجأة، وها «عُبَيْدَة» يدعونا لأن نقرأ سيرته فى وجوه الناس، فى أغانى النساء وحكايا الرجال وشقائهم المعتاد وموتهم السهل. فى قريته «العمار الكبرى» يتذكر الفلاحون الكبار والسيدات العجائز الشاعر خريج كلية الآداب، الذى يخوض حرباً لصالحهم ضد الإقطاع، الشاعر الذى يشاركهم بناء المدرسة الإعدادية: يحفر الأرض، يحمل الطوب، يصعد السّقالات، ويغنى للأشقياء، الشاعر الذى يربّى حماماً فى بيته، يكلّمه، ولا يتعب من القراءة فوق جسر النيل، الشاعر الذى يجلس طوال اليوم فوق ترس الساقية «الكبير»، وتدور الساقية إذ تحركها الجواميس معصوبة العينين، ويدور معها حول نفسه، منهمكاً فى كتابة محمومة، بينما تهدر المياه من تحته، وتهدر القصائد.
أثاره مشهد قادة الحرب على مائدة التفاوض مع الأعداء.. وعاد من الجبهة موصوماً بالجنون وتدهورت حياته.. و«شوقية»: «روّعنى وأنا صغيرة عندما حكى لى تفاصيل ما رآه هناك»يستمع لأغانى النساء، يستمع للعديد فى المآتم، يأكل بشراهةٍ لا تعادلها سوى شراهة الكتابة، يود لو يلتهم الحياة والفضاء والأحلام الكبيرة، كان مثار إعجاب الجميع، والجميع يتحسر على موته الفاجع، بعد أن ملأ الدنيا من حولهم بالقصائد، قبل أن يشتعل مع قصائده، ليقف على تخوم الأسطورة.
 
وهو الشاعر الذى يتذكرون صوته إذ يأتيهم فى الليالى عبر الراديوهات القليلة الضخمة، يقول القصائد فى إذاعة الشعب، وهو الذى غاب شهرين عن القرية، حيث كان يشارك فواعلية السد العالى العمل في موقع المشروع، يشارك بيديه مع سواعدهم العارية إلا من الجروح، وكم كان يغيب الشاعر شهوراً عن الناس، إما معتقلاً فى عنابر السجن أو مصحة الأمراض العقلية، ثم يعود بأكثر من الجروح الواضحة على الجسد.
 
فى قريته، يكتب الشباب والصبية الصغار أشعاره فى دفاترهم، يجمعونها من أفواه الأمهات، ومن ذاكرة الرجال الذين شاخوا، وما زال بمقدورهم أن يستعيدوا بسيرته الشباب والحب والبطولة، النضال والمقاومة ومحبّة البلاد.
قاد نضال شباب قريته ضد الإقطاعيين.. ونظّم مسيرة للفلاحين بالفؤوس.. و«سليمان»: ظل يحلم باسترداد قصائده من «المباحث» وكان واضحاً أنهم لن يردوها ولم يعد قادراً على إنتاج جديدغناوى القمر المشنوق:
يندهش الناس من سؤال القادم الغريب عن أحمد عُبَيْدَة: «تعرفه منين؟»، يقودنى السؤال إلى بداية شارع ضيق، وألمح لافتة زرقاء معلقة على جدار قديم: «شارع أحمد عُبَيْدَة»، شوارع القرى لا تحمل لافتات بأسمائها، فى آخر الشارع لا يزال البيت الذى انتحر فيه «أحمد»، تكسرت شبابيكه الضخمة، وتآكلت جدرانه الطينية السميكة.
فى الداخل، ردهة تقود إلى الحوش الخلفى، هناك ما زالت شجرة الزنزلخت التى زرعها «عُبَيْدَة» شاهداً أخضرَ كتوماً وشاهقاً، فيما اختفت طلمبة المياه التى كانت تسقى ديار الشارع منذ زمن بعيد، وسط هذه الجدران اشتعل أحمد عُبَيْدَة، واختفى أثره قبل اثنين وأربعين عاماً.
«عبادة»، الذى استخرج أوراق الشاعر من الغرفة المغلقة قبل ثلاث سنوات وكاد يشعل النار فيها، لا يزال يعتقد أن هذه الجدران تخبّئ أسراراً: «حاسس إن الحيطان دى مدفون فيها ورق، منشورات وأشعار ضد الحكومة».
مباحثات الكيلو 101 بوابة التراجعات التى قادت إلى «كامب ديفيد».. و«عبيدة» من شهود الحدث الذين رأوا المصير ممتزجاً مع الحطام والدم وأوراق التفاوض وأصوات الرصاصلا يميل «عبادة»، الذى يعمل فى إصلاح مولّدات الكهرباء الصغيرة، إلى جماعة الإخوان: «الناس بتقولى الإخوان كانوا بيخلوك تسترزق»، فى إشارة إلى انقطاعات الكهرباء المستمرة أيام الرئيس السابق، محمد مرسى، يُخفِض صوته كأن بإمكان الجدران القديمة أن تصغى لما يقول: «بس يلعن أبوهم برضه»، لكنه يتحدث بإكبار عن «عُبَيْدَة» الذى تحوّل إلى ما يشبه البطل الشعبى لدى الأجيال اللاحقة من شباب القرية.
«عبادة» أيضاً يحفظ عن أمه المتوفاة بعض أبيات «عُبَيْدَة»: «ستات الشارع كلهم كانوا حافظين أشعاره، عمتى سهير لسه حافظة الأغانى بتاعته».
كانت العمة «سهير» صبيّة حين كان أحمد عُبَيْدَة يحاول إقناعها بأن تأتى إلى منزله مع البنات اللاتى يغنين معه عن الفلاحين، وعمال التراحيل، والإقطاعى الذى يستحق قطع رقبته، وذَكَر الحَمام المنقّط الذى يحوّم على الأنثى.
كان «عُبَيْدَة» مثل بساطة المياه، مثل بساطة الموت فى بيوت الفقراء، يكتب كى يساعد إخوانه الأشقياء على احتمال الحياة والصراع، يكتب عن «سيور المكنة» وعن فرح الخبيز وانتظار الحصاد، يكتب كى يهدهد طفلةً تصرخ، يعرّفها أن أباها سيغيب فى الترحيلة، بينما أمها تقاتل فى المكان.
«الفقى»: «كان عنده إسهاب فى الكتابة وهو قاعد معانا يطلع ورقة وقلم ويكتب.. فجأة مبقاش قادر يقول اللى جواه.. وكان اعتقاله القشة التى قصمت ظهر البعير»تتذكر «سهير» مشهد الدار الريفية الفسيحة، المملوءة بطيور الحمام، وقد تحلّقت البنات حول منضدة كبيرة فى غرفة مليئة بالكتب، بينما يجلس الفتى «العازب» يلقّن البنات أشعاره، كان يرفع صوته ويخفضه، مشكّلاً تماوجات لحنية بمفردات يتعامل معها الجميع، مفردات يأتى بها من شطوط الترع، ومن حقول المشمش، ومن مخادع الأطفال، يغنى أشواق البنات، وهموم الرجال الحقيقيين، الرجال الذين يفاجئهم الموت من أقصر الطرق، الرجال الذين يجعلهم الشقاء أكثر شراسة فى مجابهة الأحزان.
ما أبعد هذه الأيام، لكنها لا تشك أبداً فى قدرتها على استدعاء القصائد التى غنتها مع «عُبيْدة»، وغنتها بعد ذلك لأطفالها وأحفادها، ما يحيّرها هو: لماذا جاء الغريب لكى يبحث عنها؟ وسرعان ما تنهار المقاومة التى يمليها وقار الأمهات لتدخلَ فى الغناء مباشرةً:
«وده فك زرايرى يابا/ وأنا أعمل إيه/ والواد ده عيونه سودة/ بلون الأرض المولودة/ وأنا قلبى أبيض أبيض/ بلون القشطة المقطوفة/ وإيديه ولا مغماطيس/ بتشيل ديل القميص/ وإحنا بنعبى دريس/ حَجَل الطير المقصوص/ وأهو نقّر نقرتين».
تضحك: «كنت لسه صغيّرة»، تحكى طريقة أداء الشاعر للأغنيات، كن خمس أو ست بنات يصدحن وراء أحمد عُبَيْدَة بأصوات عالية يسمعها الآباء والأمهات والعجائز فى البيوت المجاورة، وكم كانت الفتاة تخاف العقاب إذا أخذها الغناء وعادت متأخرة إلى الدار: «كنت أقوله سيدى هيضربنى، ومش هجيلك تانى، يقولى معلش معلش، هنعمل حفلة وخلاص». هى الآن تريد أن تغنى المزيد:
«وفى رية أم حياة/ والنيل طالع بيهدر/ والميّه قالعة هدومها/ نطراها على الهيّة/ ونزلت أبلّ ريقى/ بلّت خلاخيل رجليا/غوّطت جوا شوية/ بلّت قصابى العالية/ والشمس شافت حزامى/ رقصت عليه كام رقصة/ وأنا هعمل إيه يا بايا/ وأنا هعمل إيه».
يتفتح فى عينيها الخضراوين شىءٌ يشبه شوق السنوات الأولى، حين كانت تشكّل مع البنات الأخريات كورالاً صغيراً يترنم بفرح النوّار والحياة والبَرَاح، حين كانت تغنى بعدد الأقمار التى تعرفها القرى بوضوح، وفى كل ليلة تحمل أغنية جديدة إلى نومها هديةً من الشاعر.
مغنواتى القرية كان يغنى أشعاره الثورية فى السرادقات.. فإذا حذره الفلاحون من الاعتقال يقول: «الواحد بيموت مرة واحدة».. «الكردى»: كان حلمه قفزة على وعى الفلاحين وبعضهم لم يكن يتصور تملك الفقراء للأراضى والملّاك عمدوا لتشويههكان أحمد عُبَيْدَة لقّنَها أغنية لوالدها الذى يرفض تزويجها من حبيبها الفقير:
«عاصى ولاوى شنافك/ عشان ما هو أرزقى/ وماشى من غير مداس/ ساعات يلاقى شغلة/ وساعات يا عينى يا عينى/ يقرقش حديد الفاس/ ينداس يا بوى ينداس؟/ لكنه يابا يابا/ عمره ما مصّ الدم/ ولا شفط الغلابة/ ده حبيبى يابا يابا/ بزند دراعه الاسمر/ ملفوف ورا الرحايا/ لكن قلبه الاخضر/ مزروعة فيه عنباية».
لا تذكر «سهير» اسمه مرة واحدة، فإذا أرادت الإشارة إليه قالت: «هو»، تتحدث عن بنيانه القوىّ، وطلّته الجميلة المرحة: «كان زعيم»، لقد كان دائماً قريباً للغاية، قطعة من وجدانها الذى لا يشيخ، وأول من علّمها أن تحب البشر والحقول والأولاد: «كان محفظنا حاجات كتيرة، كان عازب بقى، وف الدار لوحده، والدار كبيرة، وآنى حمام، ويهيّص وياكل، ومكنش عامل حساب للدنيا يعنى، كانت الدنيا هايصة».
لكن «سهير» الصبية وصاحباتها سرعان ما غادرن الشاعر واحدةً وراء أخرى إلى الأزواج والأحوال، فيما بقيت الحمامات التى كان يربّيها فى بيته، فى الحوش الخلفى المفتوح على السماء، وكن الشاهدات على انتحاره.
قبل أن نغادر كورال البنات الصغيرات فى دار أحمد عبيدة، هل لاحظنا ذلك الفلاّح الشاب الذى انخرط مع البنات فى الغناء؟ إنه إسماعيل عبدالصمد، مغنواتى القرية، الذى سيصبح بعد ذلك بسنوات مطرباً شعبياً مشهوراً، وأحد القلائل القابضين حتى الآن على فن الموال فى مصر.
الغناء تحت مسامع «أمن الدولة»:
لم يكن «إسماعيل» يستجيب لتحذيرات السامعين فى سرادقات القرى من أن «أمن الدولة» سيسوقونه إلى الاعتقال بمجرد نزوله من المسرح، كان يقول: «ما هى موتة يعنى، الواحد بيموت مرة واحدة بس، مابيموتش مرتين»، أما سبب التحذيرات، فكانت الأغانى الثورية التى يحفظها عن أحمد عبيدة، فينقلها صوته بسهولة إلى نفوس السامعين: «كان دايماً بيحارب الحكومة، كان بيقول كلام جامد قوى، وكلام واضح على فكرة، كان صعبان عليه نفسه وصعبان عليه الناس اللى بيشوفها، الناس الكادحة، الناس اللى بتتعب وبتعرق، كان دايماً يتكلم بقى على كده».
تعلّم «إسماعيل» الدرس الأول على يد الشاعر، أن الفنان الحقيقى ابن ناسه المعبّر بإخلاص عن مآسيهم وأفراحهم وأحلامهم، حتى لو سدّد الثمن من حياته وحريته: «ما أنا قلبى جامد برضه، الفنان ده أصله حسّاس زيادة عن اللزوم، وبيصعب عليه نفسه والناس والبلد». هكذا شكّل «عبيدة» وعى المغنواتى الشاب ووجدانه.
يتذكر «إسماعيل» صحبة الشاعر المثقف ابن قريته، الذى لم يكن يفارقه لا فى الدار ولا فى الحقل: «كان ساعات يقولى على حاجات أغنيها أنا، وكان يقعد يعيّط، كان بيبكى، يعنى لما كنت أقول حاجات فيها دراما زيادة عن اللزوم، كان يقعد يعيّط، وأنا كنت أتخنق من الكلام نفسه وأنا بقوله، وهو كان دايماً أى حاجة يكتبها ييجى على الغيط يقولهالى، ويقولّى غنيلى، غنى اللى أنا بقوله، أغنى، يقعد هو - بعيد عنك - كان بيبقى فى حالة غير عادية خالص، كان بيعيط من اللى جواه».
لا تذكر «سهير» ابنة الجيران اسمه.. وتتحدث عن بنيانه القوىّ وطلّته الجميلة المرحة: «كان زعيم».. وكان أول من علّمها أن تحب البشر والحقول والأولاد.. ابن عمه: «كان طول بعرض وأكول وعايش مع الفلاحين فى الغيطان وغزير الإنتاج فى الشعر والأبنودى صاحبه.. شوف الأبنودى بقى فين وهو راح فين»لم يتعلم «إسماعيل» مثل معظم أقرانه من فلاحى القرية، «عبيدة» معلمه الأول: «مكانش حد فى البلد كلها يعرف قيمته غير لما مات، أنا الحمد لله اللى كنت عارف قيمته». يعتقد، مثل الجميع، أن تراث الشاعر احترق معه: «انت تعرف إنه حرق نفسه، وكان كاتب مجلّدات كتير لمّها ولمّ كل الورق اللى عنده وحطها ورش عليها جاز وقعد فى وسطها وراح مولّع، وقفل الباب عشان محدش يخشّله، كسّروا البيبان وكسّروا الدنيا عشان يدخلوله، كان اتصفّى، حد قالك الكلام ده؟».
ما الذى كان «عبيدة» يريده؟: «متعرفش كان عاوز إيه، من كتر اللى جواه، كان زى ما تقول عايش فى بحر كلّه موج ومش عارف يرسى على بر»، الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودى كان رفيقاً دائماً لأحمد عبيدة، ويظهر بصحبته كثيراً فى قرية العمار: «الأبنودى طلبنى، وقالهم هاتولى إسماعيل عبدالصمد ده لما أشوفه، ورحت سلمت عليه، وغنيت بقى فرحان بيا قوى الأبنودى، وقالى مبتجيش ليه الإذاعة نسجل معاك، قلت له يا أستاذ عبدالرحمن إحنا ناس غلابة ملناش عكاز، اللى ليه عكاز هو اللى بيعدى».
بعد ذلك، سيسافر «إسماعيل» إلى القاهرة للعمل فى مصنع الأخشاب بمنطقة إمبابة، وعلى مدار 27 عاماً لن يعود إلى «العَمَار» إلا فى الإجازات والأعراس والمآتم والمناسبات المتباعدة، لقد اختار طريقاً آخر: «الواحد ماشقش طريقه إلا لما جيت هنا، والناس عرفتنى، أنا مسجّل فى جميع القنوات، بيبعتولى دعوات فى الأوبرا بلاقى الصحفيين والدكاترة بتوع الفن الشعبى، وأقعد أقول وأشرح، ولغاية دلوقتى أى ندوة لازم أبقى موجود فيها، ما هو محدش بيقول موال دلوقتى».
فى حلقة مع الموسيقار عمار الشريعى، يظهر إسماعيل عبدالصمد، الذى يُعرف الآن بـ«إسماعيل القليوبى»، يغنى مع فرقته جزءاً من السيرة الهلالية: «أنا عندى جرانين ومجلات هنا صورتى فيها»، يحتفظ «إسماعيل» فى شقته الفقيرة بمنطقة الفرنوانى بشبرا الخيمة بمجلة فرنسية يحمل غلافها صورته بـ«الجلابية البلدى»، لكنه لا ينسى أبداً صاحبه القديم أحمد عبيدة: «كان بيصعب عليا وكنت بعيط عشانه، كان من الطينة المستويّة، محدش وصل لدماغه نهائى، كان موسوعة، شوف موسوعة يعنى إيه؟ كان أكتر واحد مثقف فى العمار، رغم إنه اتربى يتيم وشاف الغلب كله، زعلت أنا عشانه قوى، لأنى كنت بعدت عنه شوية فى الأيام الأخيرة وجيت هنا، مكانش بيعتر عليا ولا أنا كنت بروح البلد أشوفه، وزعلت عشان محضرتوش فى أيامه الأخيرة، مقدرش أوصفهولك، كان حاجة محصلتش، ولغاية دلوقتى متلاقيش أخوه، صدقنى مش بجامله هو دلوقتى ميّت، فعلاً لو كنت عاصرته وعشت معاه كنت عرفته على حق ومكنتش تنساه أبداً».
يتذكر «القليوبى» ملامح «عبيدة» الشاب: «كان مليح، دراعه عفى، لو وقع فى عشرين ياكلهم»، مثلما لا ينسى المبادئ التى تعلمها على يديه: «الثَّبَتَان، يعنى تصمّم على الصح، متتلخلخشى، طول ما انت ماشى على مبدأ صح محدش يغيرك».
يعمل «إسماعيل» الآن فى فرقة النيل للفن الشعبى، التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، وفى ميدان التحرير أثناء الثورة كان يغنى للشباب المعتصمين، يقول إنه كان يرى فيهم صديقه الراحل، أحمد عبيدة: «فيه شباب حلو قوى، وفيه شباب زفت، حاكم شوف الشباب الصح تلاقيه متربى وجدع وفيه نخوة، والشباب الزفت، اللى أهاليهم زفت، هما الجماعة حرامية البلد».
ناس عُبَيْدَة:
فى القرية، يؤكد مجدى الشربينى أن ابن عمه أحمد عبيدة «متدين، بس مبيحبش يروح الجامع»، لكنه يعرف بالتأكيد أن «أحمد» لم يكن سيقدم على الانتحار انطلاقاً من وازع دينى: «كهربوه فى الخانكة، لحد ما اتمخول، وقرر ينهى حياته بإيده».
يتذكر «مجدى» بنيان «عبيدة» القوى: «طول بعرض، وأكول، إن شالله رطل سمنة يحطه فى رغيف وياكله، وعايش مع الغلابة والفلاحين طول النهار فى الغيطان، يسمعهم، ويكتب أغانيهم، ويكتب عنهم، كان غزير الإنتاج، والأبنودى كان صاحبه، شوف الأبنودى بقى فين، وهو راح فين».
لـ«العَمَار» وضعية خاصة لدى اليسار المصرى، إذ ظلت القرية التى لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن شمال العاصمة بمثابة «عمق آمن» للعناصر اليسارية المطاردة من جانب الأمن، كان ذلك مع مدّ الحركة الطلابية فى أواخر الستينات وأوائل السبعينات، ولعل نشاط «حركة شباب العمار» هو الذى ساهم بشكل كبير فى تمدد اليسار فيها، واستقطاب عناصر جديدة من طلاب الجامعات والمدارس الثانوية وحتى من الفلاحين والعمال.
كان «عبيدة» أحد قادة حركة شباب العمار، التى بدأت نشاطها قبل عام من النكسة، كما يقول عبدالمعبود سليمان الفقى، محام، وكانت تضم معهما: محمد السيد علام، ضباط مراقبة بمطار القاهرة، وعبدالمنعم عثمان، مخرج سينما تسجيلية، وآخرين قادوا الصراع ضد استغلال أصحاب الأراضى، وفى هذا السياق قاد «عبيدة» ضدهم مسيرة للفلاحين بالفؤوس، لكنه أيضاً هو الذى منح الحركة طابعها الفكرى: «لأول مرة تتسرب الأفكار الماركسية إلى أدمغة الشباب، كان أحمد عبيدة حالة (عمارية) ملهمة للجميع، حتى إن بعضهم كان يتظاهر بالقراءة لكى يظل قريباً من المجموعة المثقفة التى تقود النضال داخل القرية».
«عبدالمعبود» كان رفيقاً دائماً لـ«عُبَيْدَة» أثناء حياته، مصاحباً له فى القرية، وفى أيام الجامعة كان «أحمد» يزوره فى شقة العباسية، حيث كان يقيم مع رفاقه من الطلبة: «كان عنده إسهاب فى الكتابة، حتى وهو قاعد معانا يطلّع ورقة وقلم ويكتب، فجأة مابقاش قادر يطلّع اللى جواه، كانت واقعة جنزور هى القشة التى قصمت ظهر البعير».
لم يكن «عبيدة»، كما رأينا من قبل، يؤمن بأنه مريض يحتاج إلى العلاج النفسى، كان دائماً يظن أن الجميع يتآمر ضده، حتى الرفاق: «عانى كثيراً فى مستشفى الخانكة، فى مرة إحنا اللى وديناه بإيدينا بعد ما هرب منها، ساعتها شعر بأن التاكسى لا يتجه بهم إلى العمار، اتهمنا وقتها بإننا مباحث وخونة». يقطع «سليمان»، الذى كان شاهداً على تدهور معنويات «عبيدة» فى أيامه الأخيرة، بأن فقدان الشعر هو الذى دفعه للانتحار: «فى كل المحن والنكسات اللى تعرّض لها فى حياته كان بيقاوم، يقرا، يتناقش، يكتب، كانت الكتابة حياته، وعندما فقد أشعاره، فى الوقت الذى لم يعد فيه قادراً على إنتاج جديد، ظل يحلم بأن يستردها من أمن الدولة، وكان من الواضح وقتها أنهم لن يردوها إليه».
«سليمان» يقول أيضاً إن انتحار «عبيدة» لم يكن وليد اللحظة: «صرّح لبعضنا برغبته فى الموت، وتناقشنا معه كثيراً لإقناعه بالعدول عن الفكرة، لكنه ذهب إلى السجن ورجع ممتلئاً بها، كان يشعر بأن وجوده لم يعد له قيمة، حتى أشعل النار فى نفسه مع كتبه وأوراقه، أنا فوجئت بظهور هذه الأوراق من جديد».
كان «مرسى» تلميذاً فى المدرسة الإعدادية التى تقع بجوار منزل أحمد عبيدة بالعمار: «كان بيخشلنا الفصول واحنا فى المدرسة يشرحلنا إنجليزى، وكان يحب الشاطر اللى بيجاوبه، أما البليد فكان يثور عليه ثورة فظيعة، وكان يقعد معانا على سلم المجلس المحلى ويغنيلنا، كان محبوب من الفلاحين والشباب، يربى الحمام ويقعد يكلّمه، وطلمبة الميه عنده فى البيت الناس كلها تملا منها».
«مرسى» أحد شهود واقعة انتحار «عُبَيْدَة»: «أنا تانى واحد نزل له البيت ساعة ما انحرق، السلم كان ع الأرض، عبدالله الضباش كسر الباب ورفع السلم لينا فنزلنا من السطوح، لقيته عارى من الهدوم خالص، وجسمه بيقع منه حتت».
محسن شوقى زايد، أحد جيران الشاعر، وأحد تلامذته القدامى من رفاق العَمَار: «وأنا قاعد بذاكر يخش أحمد عُبَيْدَة الله يرحمه، فى المندرة بتاعتنا فى البيت الفلاحى، يقعد جنبى ويبكى بصوت عالى، واللى فى البيت عندنا يتفزعوا: بيعيط ليه؟ لما كان بيمسك القلم جنبى وهو بيكتب القلم يرتعش فى إيده، يقوم حاطط القلم تانى ويبكى».
يعرف «محسن» أن أشعار «عُبَيْدَة» التى تم اكتشافها قبل ثلاث سنوات جمعها أسامة ياسين، ابن أخته: «بعد وفاة أحمد الناس جالها حالة فوبيا من الأمن، اللى عنده كتاب يحرقه، واللى عنده قصيدة لأحمد يخبيها أو يرميها، وبيته أصبح مستباح، وراحت معظم الأشعار، الجزء الأكبر من أشعار أحمد عُبَيْدَة اتدمر بعد وفاته مباشرة».
طريق الخيمة 101:
كانت الناشطة السياسية، شوقية الكردى، فتاة عمّارية فى الثالثة عشرة من عمرها عندما بدأ اتصالها بالشاعر أحمد عبيدة: «كنت بجمّع بنات البلد ونروح عنده فى البيت، وكان فيه مصطبة كبيرة فى مدخل الدار، كان بيعتبرها المسرح بتاعنا، يقعد يغنى وإحنا نتمايل ونجيب الإيشاربات ونتحزم ونرقص».
لا تميل الناشطة إلى أن مصادرة أشعاره وراء إقدام «عبيدة» على الانتحار: «كان غزير الإنتاج، وماعندوش مكان يستقر فيه، وفى كل مكان يروحه كان بيسيب شِعْره، وحتى الحقيبة اللى صادروها فى أمن الدولة لم تكن تضم كل أشعاره».
تفسر «شوقية» سبب انتحار الشاعر: «كان حلمه يمثل قفزة فى وعى الفلاحين فى ذلك الوقت، بعضهم لم يكن يستسيغ فكرة تملك الفقراء للأراضى، لكن قطاعاً كبيراً منهم كان يستجيب لأفكاره التى يطرحها عليهم بجرأة ويناقشهم فيها، الأمر الذى دفع بعض الملاك، رغم أن الملكية محدودة فى العمار مثل كل قرى القليوبية، إلى تشويهه بمبادرات منهم، أو بتوجيهات من الأمن».
غير أن أحمد عبيدة كان «دون كيخوتياً» أكثر من اللازم: «كان يتصوَّر أن التغيير سيبدأ من القرية، أن الثورة ستخرج من القرية، وأن القرية ستشهد إنشاء المسرح، والكورال، وكان يرى أن باستطاعته أن يفعل كل ذلك بمفرده».
لكن رفاق «عبيدة» من طليعة «شباب العمار» لم يكونوا بالضرورة محمَّلين بهذه الرغبة الدون كيخوتية فى التغيير، لم يكن حلمهم يوماً بهذا الاتساع، الأمر الذى جعله يسقط فى عزلة محكمة: «لقد كان شخصاً رومانسياً منحازاً بالكامل لقضايا الفلاحين وهمومهم، والتغيير لا يقوم على الحلم فقط، بل على رؤية ومعرفة وواقع، كانت لديه حساسية مفرطة، أكثر منا جميعاً».
لا تنسى الناشطة أن تشير إلى خضوع «عبيدة» للعلاج فى مستشفى الأمراض العقلية، لكنها تؤكد أنه لم يفقد اتزانه حتى ساعة وفاته: «لم يكن منفلتاً، لكنه كان يتصرف وفق سجيّته»، تؤكد كذلك أنه لم يتوقف عن الكتابة حتى اللحظات الأخيرة، وللمرة الثانية، لم يكن دافع الانتحار هو فقدان الشعر، بل انهيار الأحلام.
بعد تخرُّجه فى كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، عمل أحمد عبيدة مترجماً فورياً فى وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، وهكذا تم ندبه لترجمة أحاديث المتفاوضين فى الكيلو 101، بعد اثنين وعشرين يوماً فقط على حرب أكتوبر. قبلها لم تكن من لغة فوق الصحراء غير لغة القصف والانفجارات والدم، ليس سوى جنون الانتصار وقوسه المفتوح على الجبهة الأخرى.
تؤكد شوقية الكردى: «لقد روّعنى، وأنا ما زلت صغيرة، عندما حكى لى تفاصيل ما رآه على الجبهة»، وما حكاه أحمد عبيدة للرفاق بهذا الشأن يبقى هو السند الوحيد على اشتراكه فى أول مفاوضات رسمية مع الصهاينة منذ نكبة 1948، وحتى القصائد التى وصلت إلينا لم تتعرض من قريب أو بعيد إلى هذا الحدث، إذا وضعنا فى الاعتبار أنه انتحر بعدها بأقل من عام، لذا ظلت التجربة تبين وتختفى فى أحاديث الرفاق عن «عبيدة»، يقول بعضهم إنها ساهمت فى تدهور معنوياته خلال شهور حياته الأخيرة، لكنها قد لا تكفى من وجهة نظرهم للنهوض سبباً مباشراً فى إقدامه على الانتحار.
استغرقت مفاوضات الكيلو 101 العسكرية 10 اجتماعات انتهت إلى لا شىء على صعيد الفصل بين القوات تطبيقاً لقرار مجلس الأمن رقم 338، فى 22 أكتوبر 73، وخلال هذه الاجتماعات تمت مناقشة تبادل الأسرى والجثامين بين الطرفين، ومطالبة إسرائيل بتوصيل المساعدات غير العسكرية إلى مدينة السويس المحاصرة وقوات الجيش الثالث الميدانى، التى عبرت القناة وانعزلت فى سيناء تحت رحمة قوات الثغرة بقيادة «أرييل شارون».
كان واضحاً أن دفّة المعركة تحولت بالكامل لصالح العدو، وتكسرت تضحيات الآلاف من جنود وضباط الجيش المصرى فى الحرب داخل خيمة التفاوض، بينما الرصاص لا يزال يدوّى ليقطع أحاديث المتفاوضين بين وقت وآخر، بحسب شهادة الفريق عبدالغنى الجمسى، رئيس هيئة العمليات، قائد المفاوضات من الجانب المصرى، فالمعركة لم تكن وضعت أوزارها حتى هذه اللحظات.
كانت مفاوضات الكيلو 101 بوابة التراجعات الفادحة على الصعيدين العسكرى والسياسى، والتى انتهت بخروج مصر نهائياً من معادلة الصراع العربى الإسرائيلى وتوقيع اتفاق «كامب ديفيد» تحت الرعاية والمراقبة الأمريكية، وبإذعان مصرى واضح يصل إلى حد التنازل عن السيادة على مساحة هائلة من تراب الوطن.
كان «عبيدة» واحداً من شهود الحدث الذين رأوا المصير ممتزجاً مع الدم وحطام المعارك وأصوات الرصاص وأوراق التفاوض. على الأرض، كانت الدبابات الإسرائيلية تحاصر مدينة السويس ومواقع الجيش الثالث الميدانى، ولم تلتهم الطيور الجارحة وذئاب الصحراء بعد وجبتها الوافرة من جثث الجنود. لقد رأى وهو فى الطريق إلى خيمة المباحثات، وجوه العساكر، ووجوه القتلى، ومواقع القوات المعادية، ورأى القادة العسكريين وهم يخاطبون الأعداء وجهاً لوجه. لكنه ثار فيهم فأمسكوه، لم يكن الزمن أو المكان يسمحان بالتحقيق، مجنون، طردوه من الخيمة.
راح «عبيدة» إلى الجبهة شاعراً وعاد مجنوناً، وبعد أقل من عام سينتهى تماماً من الوجود، وما بين عودته وموته كان نهر الجنون يواصل اندفاعه إلى القمة فى أسوان، حيث تم توقيع اتفاقية النقاط الست، وبمقتضاها تمت تصفية الوجود العسكرى المصرى شرق القناة إلى الحد الذى أبكى الفريق «الجمسى»، وقد صار وقتها رئيس أركان الجيش خلفاً للفريق سعد الدين الشاذلى، ثم يمهر الاتفاق بتوقيعه ويخرج تماماً من الصورة وهو لا يزال على يقينه بأن «أكتوبر» لن تكون آخر الحروب كما يريد «السادات».
وكان رئيس الأركان أيضاً يرى النهاية ولكن متأخراً، إن ما يحرّك دموع القائد الميدانى أمام هنرى كسينجر، مهندس المفاوضات، مستشار الأمن القومى ووزير الخارجية الأمريكى، قد يدفع الشاعر فعلاً إلى الانتحار، كأنه بموته يبحث عن بداية جديدة تكنس كل هذا، لكن، من يقدّر الرسائل التى يبعث بها الشعراء من موتهم، ليس هذا هو ما يفكر فيه بالضرورة، فالحياة مستحيلة دون حلم، وما بقى منها فهو للمقاومة، من أجل أن تعود للجماهير أحلامها القديمة، من أجل أن تقود معركتها بنفسها رغم التراجعات المريرة، ورغم الحلول الاستسلامية التى وقّعتها السلطة تحت أعين الجماهير ورغم إراداتها، ولا ينبغى للشاعر سوى أن يؤمن بحياة الآخرين، حتى لو رُمِىَ بالجنون، وحتى لو كان الخلاص انتحاراً، كحل وحيد ونهائى لإيصال الرسالة، بل إن الأمر يبدو طبيعياً تماماً ومتكرراً فى تلك الأيام البعيدة.
إن ثمة ظاهرة مطردة فى مصائر هذا الجيل من المثقفين يسميها الراحل الدكتور غالى شكرى «الغياب المفاجئ»، لم يكن «عبيدة» الوحيد: «بين عامى 65، و1970، مات محمد مندور، وأنور المعداوى، ورمسيس يونان، على سبيل المثال، موتاً دراماتيكياً غريباً».. «النهضة والسقوط فى الفكر المصرى».
يُدرج الدكتور «غالى» هذه الظاهرة تحت عنوان لافت: «الموت والميلاد فى الثقافة المصرية، وهى لم تكن ظاهرة فكرية فقط، بل إنها تتأكد على الصعيدين العضوى والعصبى، بعد أن برهن الرحيل المفاجئ لجمال عبدالناصر على النهاية الكاملة لعصر، إذا اعتبرنا موته المباغت فى الوقت نفسه انقلاباً يشى بالمخاض الأليم لعصر جديد، ولم يكن الانتحار أو الجنون فى صفوف الجيل الجديد إلا من البشائر السلبية لولادة العنقاء الجديدة».
ويتابع «غالى»: «هؤلاء -مندور والمعداوى ويونان- مجرد أمثلة على نهاية الجيل الذى جاء غياب عبدالناصر المفاجئ والمروّع رمزاً مكثفاً له، يختتم مرحلة بكاملها فى تاريخ الثقافة المصرية، إذا أخذنا بالمدلول العميق الشامل لكلمة الثقافة، وليست وفاة المفكر اليسارى الدكتور محمد الخفيف، والفنان فؤاد كامل بعد ذلك بنوبة قلبية مفاجئة، وليست مفاجأة أمراض العصر التى تتالت على أحمد بهاء الدين، ولطفى الخولى، ويوسف إدريس، إلا استكمالاً لهذا المعنى، إن أحداً من هؤلاء لم يمت أو يمرض فى حادث أو بسبب الشيخوخة، لذلك كان تشابه الحالات وتوقيتها يحمل فى طياته ما هو أبعد من الخلل العضوى».
يضيف الدكتور «غالى» أيضاً إلى القائمة إسماعيل المهدوى، الكاتب والمترجم الشاب، تم التنكيل به وقتله فى «المعتقل الصحى»، مستشفى الأمراض العقلية، وكذلك «يحيى الطاهر عبدالله، الراكب رقم 8 يموت فى حادث سيارة، ثروت فخرى، الفنان التشكيلى الثائر على قيود كلية الفنون، يقول لزملائه فى الأتيليه (سأموت غداً) ويضحك الجميع، أما هو فيذهب ويتناول سيانيد البوتاسيوم ويموت قبل أن يكمل الخامسة والعشرين، وبعد أن افتتح معرضه الموهوب بلوحاته الرائعة.. ونجيب سرور فى سن النضج، بعد أن تجاوز الأربعين، واحد من علامات المسرح والشعر والنقد، يمشى فى الشوارع حافياً حاملاً طفله مستعطياً المارة الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه، لم يكن محتاجاً بل محتجاً، فقالوا إنه مجنون، وقال لأصدقائه سأذهب إلى أخى الذى خاصمته من خمسة عشر عاماً، وذهب إلى دمنهور وصافح أخاه ومات».
غير أن الحقيقة التى يجب ألا تغيب أبداً هى أن السلطة القديمة هى التى بدأت المسار الذى سينتهى بعد رحيلها إلى هذه النتيجة، ما فعله «السادات» فى الواقع أنه استكمل الطريق الذى بدأ، ولم يكن تأجيل المعركة، التى استحالت بعد 6 سنوات من الهزيمة إلى معركة وجود بالأساس، ولم يكن قرار خوض الحرب المحدودة أخيراً بعد تصاعد الغضب الشعبى وفشل جميع الحلول السلمية مع الأمريكان، غير خطوة واسعة فى اتجاه التبعيّة والنكوص عن القضية الأساس، قضية الوجود، إيثاراً لسلامة الأنظمة، ووفق رؤاها المحدودة والانتهازية.
الآن وصلت الأمور إلى نهايتها المنطقية، وحتى إن بدت تراجعاً أو انقلاباً، فإن ما تم التراجع عنه فى الحقيقة هو الحرية التى تعنى الحياة فوق هذه المساحة من العالم، بإرادة كاملة لا تخضع لوصاية من العدو، ودون ترتيبات يجرى إعدادها فى القدس المحتلة أو جنيف أو كامب ديفيد، لقد أعلن نظام الثورة إفلاسه إزاء تحدى المواجهة مع الاستعمار القديم والجديد، وطرح جميع أوراقه على موائد التفاوض فى عواصم العالم، وكانت الثورة نفسها لم تصل بعدُ إلى أهدافها القصوى، بل جرى تشتيتها واعتقالها واتهامها بالجنون.
ولكى تؤكد الثورة وجودها فى وجه المخطط الكارثى، فإنها تدفع بفرسانها النبلاء فى أتون النار ليظلوا شهوداً، هكذا اندفع أكثرهم حساسية وذكاء وبصيرة إلى «نهايات دراماتيكية غريبة»، لا لأن الأمل قد بات بعيداً ومستحيلاً، كما يبدو الأمر فعلاً لدى الملايين التى ودعت قائدها واستقبلت مغامرات وريثه فى الحكم بالكثير من الذهول والقليل من الاحتجاج، ولكن لأن الوعى بالمأزق الوطنى والإنسانى الفادح لم يجد قناة أخرى لكى يعبّر عن نفسه بكل هذا الوضوح، بعيداً عن الدعاية الكاذبة ومهرجان الانتصار المزعوم وأوهام السلام المستحيل.
إن التكميم والإقصاء والملاحقة والتشويه والتعذيب والاعتقال والتصفية، وهى أدوات السلطة على الدوام، بما فيها أكثرها ثورية وانحيازاً فى الظاهر للطبقات الفقيرة والمسحوقة، لا تؤدى بالضرورة إلى إسكات نُذر المقاومة، فهل عاد «عبيدة» ليذكّرنا بأننا إزاء نفس السلطة التى لا تقود أحلام الجماهير، نفس الطبقة التى لا تكترث للتضحيات التى قدمتها وما زالت، فى الحرب واللاحرب، فى الانتصار والهزائم المتتابعة؟ إن مكونات الصراع ما زالت كما هى، سوى أن الطبقة الحاكمة تمادت فى الاستغلال والقمع والمقامرة بمستقبل الوطن حتى نهاية الطريق، وما زالت الأجيال تدفع ثمن مغامراتها الفادحة إلى الآن.
إننا قد نصل متأخرين للغاية إلى ديار الشاعر، لكنه يظل دائماً بانتظارنا.
قالوا القمر جدع أبيضانى حليوة/ ساكن على العليوة/ له شال عباية وابن نكتة/ ورموش عينيه فوق لفوق لفوق/ كأنه حبّ فى الليلة الكبيرة/ قمراية خضرا موردنة/ ورقص على جناح نحلة م الشغّيلة/ ضربوه على اطراف الصوابع/ شنقوه من امشاط القدم/ من يومها متعلّق على البوابة.

شارك الخبر على