رأس منيف.. جارة الشمس والريح والشجر

أكثر من سنتين فى الرأى

عاليا كأنها تريد معانقة السماء..

شامخة تجاور الغمام الذي يمرّ بها، فتسرد، مع كل مرور له، في أذنه، بعضاً من ذاكرتها، وفيضاً من تلك التواريخ التي عايشتها من مكانها على مرمى إطلالة شمال شرق قلعة عجلون، على ناصية أعلى المرتفعات التي تواطنها، فتستقبل وحدها بدايات الثلج، وبدايات الشمس من ناصية إطلالتها التي صار اسمها قرية «رأس منيف».

تلك القرية واضحة كنقاء الهواء فيها، وبهية كذاكرة الدوالي في كرومها التي تعرف، أكثر من غيرها أن «رأس منيف» قد تقلبت عليها الأسماء قبل أن تستقر على ما هي عليه الآن، وهي القرية التي شهدت كل المواثيق التي سطرت تاريخها بأن للكرمة فيها جذوراً لا تنتهي، متماهية في عمقها، حتى انعكست على أول الأسماء التي عرفت بها وهي «عَفْنا» وتكتب أحيانا «عفنى» بالألف الممدودة، التي تعني كرمة العنب، حيث ذكرت تلك الكلمة في الكتاب المقدس 56 مرة، كشيء وليس كمكان، ولها أيضا جذور آرامية وكنعانية قديمة يفيد معناها العنب أو ما له علاقة ب? من أشياء.

كما أن دلالة الاسم تتوافق مع ما رواه أهل القرية عن اسم «عفنا» الذي بقي متوارثا وموجودا حتى بداية القرن الماضي، وهم يقولون عنه في سردهم لمعناه إن القرية كانت مشهورة بالعنب، ومن كثرته كان جزء منه لا يستطيعون تلقيطه والاستفادة منه، فكان يتعفن على الدوالي أو تحتها، ولهذا صار اسمها «عفنا».

أصل التسمية

يتذكر كبار القرية أيضا بأن سبب تسميتها الحديث، في الأصل، يرجع إلى المغفور له الملك المؤسس عبد الله بن الحسين، أيام بداية تأسيس الإمارة، حين زار المنطقة وتوقف على المرتفع متأملاً من هناك مشارف جبل الشيخ، وفلسطين، والأغوار، ثم سأل من حوله: «ما اسم هذه البلدة؟»، فقالوا له: «إنها عفنا». يتذكر كبار القرية أنه، في تلك اللحظة، كان تعليق (الأمير آنذاك) سريعا وتلقائيا: «والله المفروض يكون اسمها مُنيفة».

وتناقل أهل القرية الملاحظة، فأخذوا الاسم الجديد لقريتهم من كلام الأمير آنذاك، وصاروا يُعَرفون على قريتهم في البداية بأنها قرية «منيفة»، ثم تحولت إلى «منيف»، وأحيانا كانوا يقولون «إحنا ساكنين جبل منيف»، إلى أن استقر الاسم في النهاية ليكون «رأس منيف».

لكن أهل القرية لا يعترفون بالهمزة في هيكل أحرف قريتهم، فهم نادرا ما ينطق شخص منهم بأنه من «رأس مُنيف»، وهنا تشتغل المخيلة الشعبية، والذاكرة الريفية، في تحوير الاسم، ذلك أنهم يجدون ثقلا على ألسنتهم من تلك الهمزة الغريبة عنهم، فيعملون على التخلي عنها، لتصبح «راس» بدلا من رأس، ويكملون لفظهم للجزء الثاني من تكوين الاسم «منيف» بعد أن يُسَكّنوا الميم ويكسروا النون حتى تستقر الكلمة على «مْنِيف»، فيتشكل اسم القرية في صيغته المحكية سلسا على آذانهم وذاكرتهم وفي وعيهم: «راس مْنِيف».

خربة «شين»

عن ذاكرة قدوم أهل القرية إليها واستقرارهم فيها، منتصف القرن الماضي، يقول الحاج محمود علي القضاة، بأن أهل راس منيف معظمهم من عشيرة القضاة، وقد كانوا قبل السبعة وأربعين(1947م) في قرية عين جنه، وجاءوا من هناك، وسكنوا في البداية بالمغر(الكهوف)، وبنوا بيوتاً وكانوا يزرعون ويحرثون ويعتاشون من الزراعة.

يكمل قائلا بأنه يوجد هناك كثير من الآبار والكهوف والمساكن المخفية في القرية، وكل مجموعة من تلك المغائر متداخلة في بعضها، وتشكل بمجملها الـ"عراق»، وقد كان الناس يسكنون فيها على شكل مجموعة عائلات وليس منفردين، وهذه المغائر توجد في معظم أنحاء القرية، خاصة في الجهة الجنوبية من البلدة وهذه كان اسمها «سْتات»، وهي منذ القدم أثرية وتحتوي في داخلها أسرار القرية وتفاصيلها.

وهناك معالم أخرى قديمة معتقة في القرية؛ فخربة عفنا يشي تاريخها بعهود قديمة تعاقبت عليها، ويتبع لها أيضا خربة «شين» التي تقع على بعد عدة كيلومترات من القرية، وفيها ما تزال العقود القديمة، والحجارة المعتقة، وتفاصيل العراقة التي زرعتها وسط الأشجار والخضرة التي يمر بها الزائر إليها قبل أن يصلها.

وتقول كتب التاريخ عن منطقة «شين» التي تقع فيها الخربة أنها من الأماكن التي توزع فيها الساكنون في بلدة راسون، زمن الأمير العالم محمد بن عبد الملك بن مروان الأموي.

ناحية بني الأعسر

ترى هل من الممكن كتابة تاريخ قرية في مرحلة ما بتتبع مجموعة أرقام، وتفاصيل ضرائب وجدت في وثائق رسمية ترجع إلى الفترة العثمانية؟

هذا ما يجب أن يحدث، حين تكون قرية «راس منيف»، مذكورة تحت اسم «عفنا» في ثلاثة دفاتر طابو عثمانية، هي «دفتر طابو (430)، ودفتر طابو(401)، ودفتر طابو(99)».

لهذا فإنه باستخدام تلك الأرقام والجداول والملاحظات المدونة في تلك الدفاتر، يمكن رسم صورة أقرب إلى الواقع عن قصة قرية «عفنا» التي تسرد بعضها تلك الأوراق واصفة حالها منذ مطلع عهد السلطان سليمان القانوني، حين كانت هذه القرية إحدى قرى ناحية «بني الأعسر» التي تشير بعض كتب التاريخ إلى أنه أطلق على تلك القرى هذه التسمية لأن «أحد أبناء الأعسر بن عبد مناة بن عوف قد استقر أو تملك في هذه المنطقة فعرفت باسمه».

وعفنا هي واحدة من هذه القرى التسعة وعشرين في ناحية بني الأعسر، وقد كان فيها ثلاثون خانة(عائلة) تزرع وتفلح أراضي القرية، لكنها كانت تقيم في قرى أخرى مجاورة لها، لذلك كانت تلك العائلات تدفع الضرائب، وتُكتب في سجلات الدولة على أنها عائلات في القرية بينما هي على أرض الواقع لا تقطنها بل تستغلها للزراعة دون أن تؤنسها بإقامة، أو منام داخل حدودها.

كما تقول ذاكرة الدفاتر أن القرية كان أهلها قد دفعوا ما قيمته «حاصل قسم من خمسين» وتم جمعهم وتحصيل 1450 آقجه (عملة عثمانية) عن محاصيلهم من الحنطة والشعير إضافة إلى رسوم الماعز التي يربونها.

القصة تعطي جوانب أخرى من حياة قرية عفنا حين يتم إقطاعها إلى تيماري جاوش علي بن حسن «بحسب دفتر طابو (401)» مقابل 5200 آقجه، حيث زاد أهل القرية ليصبحوا 37 خانة، وأعزبين.

كما أنه وبحسب ما سطر في الدفتر كان فيها 39 نصرانيا كان يتم تحصيل ضريبة خاص شاهي(خاصة بالسلطان) عن كل نفر منهم 80 آقجه، بلغت مجموعها 3120 آقجه عرفت كجزية نصارى.

كان الخير كثيرا في قرية عفنا، لكن الرسوم كانت مجحفة بحقهم، فقد كانت القرية تنتج العنب والزيتون إضافة إلى الحنطة والشعير والماعز، وربما يكون منتوجها من العنب وحده يعادل ثلث محصول كل القرى المجاورة في تلك الفترة، لكن العثمانيين كانوا يحصلون من أهلها ما قيمته ربع منتوجهم، عدا الجزية على النصارى التي أشرنا إليها، وتؤكد الوثائق أن أهل القرية دفعوا في تلك الفترة 5200 آقجه.

***

هذه معلومة يشي بها «دفتر طابو 99»، الذي يذكر أن «عفنا» قد أُقطعت إلى تيماري مصطفى مقابل 6000 آقجه، في عام 1005ه /1596م، وقد كان عدد سكان القرية في تلك الفترة يبلغ(32)خانة و(15)مجرد، ومساحة الأراضي الصالحة للزراعة فيها كانت 19 فدان حرث (وما يسوقه الفدان «يحرثه» حتى وقت الظهر فهو فدان الحرث، ويقال له فدان الأرض أيضا)، ويشار في القرية هنا إلى أنها كانت بالإضافة إلى المزروعات السابقة فيها كان يوجد هناك مناحل، ومحاصيل صيفية كالكرسنة والحمص والعدس والذرة والفول، حيث تدوّن في الوثائق العثمانية تحت مسمى «مال صيفي»?

مخازن «العتاد»

الماشي في القرية يرى في غير مكان فيها بقايا مواقع عسكرية، وخنادق، وثكنات، بعضها موجود في الخرب، والبعض الآخر في بيوت وكهوف أثرية.

يتحدث عنها الحاج محمود القضاة ويشاركه في تلك الذاكرة، أيضا، الحاج «علي احمد القضاة» قائلاً إن القرية وبسبب ارتفاعها وموقعها الاستراتيجي كان الجيش في الأوقات الماضية يرابط فيها. كذلك كان هناك في قمة رأس الجبل موقع مدفعية، أما في وسط البلد فقد كان يوجد ثكنات عسكرية ومواقع مخازن «العتاد» التي كان منها يتم تزويد الخط الأمامي في الحرب بالذخيرة.

شجرة المقبرة

الذي يزور «راس منيف»، لا بد وأن يمر أمام المقبرة فيها ولسوف تبهره ضخامة الشجرة المزروعة بين القبور، فهي أقدم منها، وربما أقدم من كل الأموات المدفونين هناك، لأنها سنديانة عمرها أكثر من مائتي عام.

يقول الحاجان (محمود وعلي القضاة) إن هناك شجرة أخرى مثلها في القرية إلا أنه تم «شلعها» وقد بنوا مكانها الجامع الذي كان يتسع في بداية بنيانه لخمسة وعشرين شخصا فقط، قبل أن يرمموه في السنوات الأخيرة ويوسعوه.

أما «شجرة المقبرة»، فقد كانت حافظة أسرار الناس، والشاهد على جزء من تاريخ الناس في القرية إن خاصة أن الكهول من أهل راس منيف «فكّوا الحرف، وتعلموا القراءة قريب من شجرة المقبرة».

يقول الحاج محمود عن تلك العلاقة التي تربط الشجرة بالمقبرة بتعليم أهل القرية، أن الشيخ علي السلمان القضاة (أبو نوح) الذي يقع قبره قريبا من الشجرة قد توفي في 24 رمضان 1409هـ وقد كان أهل القرية يعتبرونه «رجلا صالحا ومثل ولي يتباركوا فيه»، وفي تلك الفترة كان يؤم في الناس بالجامع وهو في نفس الوقت يُدرّس أبناء القرية اللغة العربية والقرآن، وكان الشيخ أبو نوح يسكن بخربة «عفنا»، لكنه في أيام الصيف كان يدرسهم تحت هذه الشجرة، وكان التعليم في تلك الفترة «كُتّاب»، و «الطالب يعطي للخطيب بيضه ورغيف وعود حطب «يستخدمها ال?طيب حتى يتدفأ الأولاد عنده في الشتويه»، وكان الطالب «عندما يخطئ يعاقبه الخطيب في بيت الطابون ويضربه بالخيزرانه».

تلك الذاكرة كانت قبل أن تؤسس المدرسة عام 1958م التي تم بناؤها على نفقة أهل البلد وكانت تتكون من ثلاث غرف.

ويختم الحاج محمود حديث الذاكرة بقصة طريفة عن كيفية التحايل في تلك الفترة في سبيل تثبيت وجود المدرسة في القرية فيقول إنه «ما وافقت التربية على فتح المدرسة إلا بعد أن استدنا ولدا من عين جنه، كقرظة، حتى يكتمل العدد على طنعش(12) طالبا، لأنهم ما كانوا يفتحوا مدرسة بأقل من هذا العدد».

***

تلك هي قرية رأس منيف، زينة القرى، كأنها منارة خير ومحبة بموقعها المرتفع عاليا، حكاياتها كثيرة، وتاريخها ثري، وأهلها مسكونون بالطيبة والأصالة وحب الوطن.. رأس منيف جارة الشمس والريح والشجر.. أيقونة الأمكنة.

شارك الخبر على