صلاح جاهين وتنقية التراث

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

جرت العادة أن ينسب كثيرون لأنفسهم أبياتًا كتبها شعراء عظام. هذه السرقات الأدبية تحدث طوال الوقت فى سياقات مختلفة، يتراوح مرتكبوها ما بين سارق حويط يزين بها صفحته على فيسبوك دون أن ينسبها إلى صاحبها الأصلى، أملاً فى أن يقرأها غافل وينسبها إليه، وسارق عبيط ينسبها إلى نفسه خبط لصق موجهًا كلماتها لابنة الجيران التى يطمع فى إبهارها ويثق فى سذاجتها وضحالة معارفها، وسارق أثيم يعيد كتابتها بإحلال بضعة مرادفات يضعها فى أماكن كلماتها الأصلية، محاولاً ألا يغير مضمونها بقدر الإمكان، فيحصل على نسخة مضروبة تحمل رائحة وأثرًا من العمل الأصيل، ولكنها تفتقر إلى طزاجته وانسيابه وروعة خياله.

الشىء الذى يكسر تلك العادة ويخرق قانونها يحدث بإفراط فقط مع صلاح جاهين، عندما يحاول آخرون طوال الوقت إضافة رباعيات بأكملها، لم يقم بكتابتها، إلى ديوان رباعياته العظيم. بعضهم يكتبها بقلمه، والبعض الآخر ينتزعها من ديوان شاعر آخر لينسبها إليه. التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو استسهال تقليد تلك الرباعيات العبقرية المخادعة، التى توهم من يقرأها بسهولة أن يأتى بمثلها، فيقع فى فخ المحاكاة التى تفتقر إلى قيمة الأصل، حتى وإن نجح صاحبها فى اقتفاء خطوات كاتب العمل المبدع واستلهام أسلوبه المميز.

تزدحم صفحات الإنترنت برباعيات مزيفة تنسب كذبًا إلى جاهين من أشهرها "المجتمع زى الرصيف.. وسخ ولازم يتكنس. فيه ناس بتعرق ع الرغيف.. وناس بتعرق م التنس". وهى أبيات كتبها الشاعر فؤاد قاعود، ويمكن لأى قارئ جيد أن يدرك فى لحظة واحدة خروجها عن النمط الذى التزم فيه جاهين بتوحيد قافية الرباعيات ما عدا فى بيتها الثالث الذى يكون حرا من ذلك الالتزام. ناهيك بعدم التزام أغلب تلك الرباعيات الدخيلة بالقاعدة الفلسفية الصارمة المدهشة التى أخبرنى بها الراحل العظيم.

البيت الأول هو الإمساك بالمطرقة.. البيت الثانى هو رفعها بثبات.. البيت الثالث هو التطويح بها لاكتساب العزم.. البيت الرابع هو الهبوط بالمطرقة على الهدف بأقصى قوة. لا تتعجب عندما أخبرك بأنى قرأت عشرات الرباعيات المنسوبة كذبًا إلى جاهين، ناهيك بوجود مئات أخرى غيرها لم تقع تحت يدى بالطبع. فإذا كانت تنقية تراث شاعر واحد من التلوث الذى أصابه خلال بضعة عقود تقل عن أصابع اليد الواحدة، تحتاج إلى معرفة وجهد ومثابرة، فما بالك بتنقية تراث دينى لوثته أساطير العامة وأغراض السلاطين طوال قرون طويلة تخللتها عصور انحطاط مظلمة لم تشرق الشمس خلالها إلا لسنوات قليلة.

ذكرى رحيل شاعرنا العظيم تدفعنى إلى الكتابة عنه فى أبريل من كل عام، ولم أكن أدرى أنى سألضم حزنى الخاص فى هذه السطور بحزننا العام.

أدعو كل أسرة مصرية بل وعربية أن تقتنى نسخة من رباعيات جاهين التى تحمل رؤية فلسفية، يمكنها إنارة عقول وقلوب أظلمت فأدمنت الظلم.

رحم الله صلاح جاهين ورحمنا من هذا الزمن الردىء.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على