السينما وخيري بشارة

أكثر من ٣ سنوات فى البلاد

نشر المخرج المصري الكبير خيري بشارة حوار له في صفحته بالفيسبوك يتحدث فيه عن شغفه بالسينما والسحر الحقيقي له في عالمه من خلال شحصيته وافلامه وكان التالي:

 

* ماذا تعني السينما بالنسبة لي؟

عندما أتحدث عن تجربتي في السينما، لا بد أن أتأمل قبل كل شيء ما هي السينما بالنسبة لي؟، ومتى قررت أن أصبح مخرجا؟!، وهما الجانبان اللذان يشكلان أساس تجربتي ومفتاح فهم الأفلام التسجيلية والروائية التي صنعتها منذ العام 1974 حتى العام 1995، وعددها 18 فيلما تسجيليا وروائيا قصيرا وشريط فيديو من أبرزها (صائد الدبابات - طبيب في الأرياف - طائر النورس - تنوير - حديث الحجز - تجاوز اليأس) و11 فيلما روائيا طويلا (الأقدار الدامية - الطوق والاسورة - يوم مر، يوم حلو - كابوريا - رغبة متوحشة - آيس كريم في جليم - أمريكا شيكا بيكا - حرب الفراولة - إشارة مرور - قشر البندق).

تراث السينما المصرية وخاصة أفلام الأبيض والأسود التي يذيع التليفزيون منذ مولده وحتى الآن نماذج منه بصفة دائمة، مازالت تمتع المتفرج على امتداد العالم العربي، والذي كثيرا ما يجاهر بأنه يفضلها على الأفلام المصرية التي تنتج هذه الأيام، ومعظم هذه الأفلام يمتد انتاجها من الثلاثينيات المتأخرة (العزيمة 1939) حتى الخمسينيات قبل ظهور التليفزيون في مصر وقبل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شكلت اتجاه المجتمع في الستينيات ونقيض الاتجاه في السبعينات وصولا إلى الاتجاه المسيطر لتحويل العالم إلى سوق واحد كبير في التسعينيات الذي لا نعلم إلى أين سيقود البشرية عبر القرن القادم،

تراث السينما المصرية الأبيض والأسود الذي تربيت عليه وتربى عليه كل المخرجين في العالم العربي الذين يقودون الاتجاه نحو سينما مغايرة، هو تراث عزيز بالتالي وهو مع تراث الأغنية الموازية حتى عبدالحليم حافظ، والرواية من طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، تمثل الإمكانية المتاحة لفهم الوجدان العربي واستيعاب النظرات الأخلاقية السائدة فيه في النصف الأول من القرن العشرين، وهي لمتفرج اليوم المبهور بها لا تمثل فقط حنينا إلى الماضي، بقدر ما تمثل هروبا من النظرة الأخلاقية المرتبكة والمعقدة لعالم اليوم إلى نقاء النظرة وصفائها في الماضي، برغم ما تتسم به هذه النظرة غالبا من سذاجة عاطفية، في التعامل مع واقعها، والنقاء والصفاء ليسا بالضرورة قرينين للسذاجة، كما أن البساطة لا تعني دوما عدم العمق أو السطحية، وهذا الإعجاب بالأفلام العربية الأبيض والأسود يأتي أيضاً بصورة آلية ولا شعورية من سحر الزمن في السينما عموها، فالزمن السينمائي زمن حاضر، يموت إسماعيل يس ولكنه يظل مع كل عرض سينمائي زمنا حاضرا بالنسبة لمتفرج اليوم الذي لم يعاصره، يموت عبدالحليم حافظ ولكنه يعيش مع كل مرة يعرض فيها فيلم من أفلامه،

 

* الإمساك بالحياة قبل أن تذهب والقدرة على جعلها زمنا حاضراً دائما بعد أن تذهب بالفعل، هو السحر الحقيقي للسينما، وهو الذي يجعل عقيدة الخلود عند قدماء المصريين متحققة بصورة مسلية، هذا السحر هو الذي تمكن مني وحدد مع الوقت والنضج، هي السينما بالنسبة لي؟.

ما دامت السينما زمنا حاضرا (العودة إلى الماضي والذهاب إلى المستقبل يدخلان في المعنى الفلسفي الأعمق في دائرة الزمن الحاضر أيضا، ومنها قضية أخرى لسنا بصددها)، فما هي الحياة التي أعشق الإمساك بها قبل أن تذهب؟ هل هي القصص المصنعة المسلية عن العلاقات الاجتماعية المطلقة المألوفة والمعتادة والتي نرى فيها الصورة العاطفية السطحية للإنسان في كل الأوطان والأزمان؟ أو الإمساك بحياة حقيقية لبشر حقيقيين في مكان بعينه وزمن خاص؟ الإمساك بروح البشر والأشياء، الإمساك بالتيار الخفي الذي يحكم الواقع، ويظهر بعلانية ربما بدت لا أخلاقية ما يمور به المجتمع من تناقضات وما يفسر تقلباته، سينما تبحث عن القناع خلف الوجه، لا تهتم بالافصاح وما يقال، ولكن عما لم يفصح عنه ولم يقل، عن المشاعر الغامضة المخبوءة في الأعماق، عن كيف تنشأ العلاقات في الحقيقة، وكيف تنمو أو تتعثر، عن المصائر السعيدة والتعسة، عن الخوف من الموت، عن حب الحياة، عن آليات الكراهية والعنف،. عن قدرة التعبير والعجز عنه،. عن التعسف والمرونة، عن الفاشية الاجتماعية والسياسية، وعن الظلم الاجتماعي، سينما تبحث عن لحظة تمسك بها، صبي فقير ومريض يبتسم، عن نسمة هواء تحرك شعر امرأة تعيسة فتدخل البهجة إلى نفسها، قضبان قطار يثير الحنين إلى السفر، إلى الهروب المؤقت، شاب يصعد فوق أصدقائه ليقبل فتاته عبر نافذة البيت علنا في الشارع، هذه هي السينما بالنسبة لي والتي عشقها المختارون من جيلي صارعوا من أجلها في ظل ظروف صعبة وغير مواتية، وأحب أن ادعوها الآن سينما فنية (مقابل سينما مختلفة، سينما جديدة وهما تعبيران استخدما بكثرة ومازالا)، مقابل سينما احترافية وهو تعبير أفضله الآن عن تعبير سينما سائدة (معظم تراث السينما المصرية والعالمية الذي يألفه ويرتاده ويستمتع به المتفرجون في كل أنحاء العالم). وسوف نتجاهل في هذا الحديث مناقشة لماذا تتمتع السينما الاحترافية المصرية في نماذجها الشائعة المميزة (معظم تراث الأبيض والأسود في السينما المصرية) بأمانة في التنفيذ عن أفلام اليوم المنتجة في مصر، فهذه الأمانة - المطلوبة والحتمية ولا شك في كل عمل وأي عمل - تخدع عند التقييم الضيق الذكي لا يتمعن أبعد من الخارج والسطحي، وهي تنهار تماما إذا ما قابلتها أمانة توافرت في سينما فنية.

 

* متى قررت أن أصبح مخرجا؟

قضيت طفولتي حتى السادسة من عمري في الريف قبل أن تنتقل الأسرة إلى القاهرة، كانت عائلتي لأبي بورجوازية ريفية من التجار أصحاب المحلات والتوكيلات البسيطة ومن الافندية الذين يعملون في شركات انجليزية، وكان جدي في الأصل صعيديا، مازال سر نزوحه إلى قرية سيدي سالم محافظة كفر الشيخ واستقراره فيها مجهولا لي إلى اليوم،. كنا نسكن في بيت متميز انجليزي الطراز بحكم وظيفة أبي في تفتيش سيدي سالم المملوك لشوكة انجليزية تعمل في تجارة الأراضي الزراعية، وكان أبي يملك ارضا إلى جوار وظيفته.

من ذلك الماضي البعيد، مازالت صور ولحظات تومض في ذاكرتي وتثير هياجي العاطفي حتى الآن، مدرس عجوز سمح الوجه يلون مربعات مخططة على ورق صغير، كنت انتظره بفارغ الصبر في المقهى كي يمنحني ورقة المربعات الملونة، كانت تبهرني بشدة، ومازالت ألوانها تومض في عيني، الحشائش الخضراء في ضوء الشمس، والفراشات الملونة ومحاولة اصطيادها، الطيور في تحليقها بجميع أشكالها، كوبري الجسر القديم، ضوء العصاري الذي يتخلل ظلام بيتنا في وقت لم نكن نعرف فيه الكهرباء، أمي تخبز في الشمس الحارقة وخالتها تعبث في شعر رأسي وأنا متضايق أريد أن أفر منها، احتفال هيئة التحرير في بداية قيام الثورة وحلوى شائعة باسم "شكوكو"، قلق يوقظني في صباح مبكر عند أقارب في قرية الحامول، ولا أتذكر سوى همهمات عن جريمة قتل وصورة قضبان سكة حديد من شباك البيت الذي قضيت فيه ليلتي، أتذكر ثانية قضبان السكك الحديدية ذات مساء بصورة ممتعة وأبي يهرول مع أختي الصغيرة التي اقتربت وهي تلعب من لمبة الجاز فأصابت عينيها، صورة جدي الذي كان يتمتع بشخصية جبارة مخيفة، يحبس من يغضب عليهم في دكاكينه، ويتحكم في كل العائلة التي تهابه وتخشاه، ولكني لا أتذكر سوى انه كان يخزن التفاح في خزنة النقود الحديدية ليقضم كل صباح تفاحة على الافطار، وأنه كان طيبا عندما تجاوز التسعين وفقد بصره تقريبا، أتذكر عشقي لرائحة الجاز والبنزين حين كنت أحب أن أبيت عند عمتي في الطرف الأخر من القرية، حيث كانوا يعيشون في "كوبانية" جاز يمتلكها زوجها، ولكن أخطر ما أتذكره رعب والدي بعد أن ضرب فلاحا يعمل عنده فأدمى وجهه، لم يكن والدي اقطاعيا، كان ببساطة من الموظفين صغار الملاك، ولا أعرف هل كان قلقه واحساسه بالذنب خوفا من الثورة الوليدة أو من قسوته نفسها، كل ترسب في أعماقي وأنا طفل، انني تعاطفت مع الفلاح وكنت أحمل غضبا مكتوما ضد أبي، في شبرا بدأت حياة جديدة، الصبا والمراهقة والشباب حتى النضج، ولم أترك شبرا إلا بعد زلزال 1992 أي وأنا في الخامسة والأربعين من عمري، وتتداعى الصور واللحظات.

* جدي والد أمي الذي كان يسكن وحيدا في شبرا وأقنع ألما أن نقيم معه، رجل طويل القامة مهيب من ميت غمر يعمل في بنك يهودي في شارع شامبليون (ليفي جربوعة على ما أذكر)، كان يكره الثورة وكنت أعاني لأني أحبه كما أحب الثورة، في عام 1956 وأنا في التاسعة من عمري كنت أريد أن اتطوع في مدرسة أوضه باشا للذهاب إلى بورسعيد ولكن أبي منعني، "دع سمائي فسمائي محرقة،" فرحة لا توصف كصبي بسقوط طيارات الأعداء، المشاعر الغامضة في الليالي المظلمة لعام 1956 عندما كان يلعب جدي وأبي وأقاربنا الكوتشينة وأنا أحب ابنة خالتي، وأتضايق عندما يقول جدي: "ذهب الملك وجاء 12 ملك"، الخال الغامض الذي يزورنا من وقت لأخر، كنت أحس وأنا صبي أنه مختلف عن الآخرين ومتميز عنهم، ثيابه، طريقة كلامه، صوته، رائحته، طقوس يومه عندما يبيت عندنا، كنت مفتونا به، ولا أعرف ماذا يعمل، وكان قد ترك قبل ان ينتقل إلى السكن بمفرده حقيبة ضخمة من الطراز الإنجليزي، كانت تلك الحقيبة تمثل لغزا لي، أعرف أنه يفتحها أحيانا ويأخذ بعض الكتب، ولكن ما سر هذه الكتب، ماذا فيها، ذات يوم قررت وكان البيت خاليا وأمي مشغولة في المطبخ أن أصل إلى معرفة اللغز، فتحت الحقيبة عنوة بسكين، وأخذت اتصفح الكتب الأجنبية باحثا عن الصور، يا الله، صور فتنتني بحق وألهبت خيالي، أدركت فيما بعد أنها صور من مسرحيات إنجليزية وأفلام من الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وعرفت ان الخال كامل يوسف الذي درس المسرح في انجلترا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة يعمل مخرجا وممثلا، وعرفت ماذا يعني عالمه، وتمضي الايام وتتكاثف الصور، انهيار الأوضاع المالية لأبي لاسباب مازلت أجهلها حتى اليوم، البلوغ وفيلم "احنا التلامذة" ومشهد اغتصاب الشغالة الذي أصابني بالحيرة والارتباك، سرقة جدي من أجل الذهاب للسينما وشراء الكتب دون علم الاسرة، موت جدي الذي أضحكني، لانني لم أفهم كيف يصبح رجلا عملاقا مثله بصوت قبقابه الذي يثير ضجة وهو في طريقه إلى الحمام فجأة شخصا صامتا لا ينطق ولا يتحرك على السرير، وقد أنبتني أمي بشدة فهربت إلى الشرفة أضحك.

* شراء أول كتاب مهم له تأثير في تكويني وأنا ربما لم أصل بعد إلى الثالثة عشرة من عمري وكان قصصا وروايات قصيرة لتشيكوف ترجمة الدكتور محمد القصاص، اشتريته من سور الازبكية الذي صار يستهويني الذهاب إليه يوميا فيما بعد، عالم توغلت فيه وأنا صغير السن فامتلك بصورة غامضة كل وجداني، مشاهدة مسرحيات العبث لبيكيت ويونسكو في مسرح الجيب الوليد، وتم استخراج كارنيه للمشاهدة برغم الاعتراض وقتها لكوني لم ابلغ السادسة عشرة من عمري، لولا تدخل سعد أردش الذي ربما دهش من شدة اهتمامي برغم صغر سني.

*كنت أريد أن أصبح ممثلا، وعندما صارحت خالي بأنني أريد أن التحق بمعهد الفنون المسرحية، طالبني بأن أفكر جيداً هل: أنا موهوب وسوف أكون ممثلا متميزا مثل العشرات أو سوف أكون مجرد ممثل متواضع مثل الآلاف، كانت كلماته صارمة لي بصورة مرعبة، وتخيلت انه لا يريدني أن أكون مثله، فبكيت بكاء مرا، وقررت أن أحقق ما أريده يوما ما، ولكن وقع في يدي كتاب "فن الفيلم" لأرنست لندجرن، وما أن انتهيت من قراءته حتى كنت قد اتخذت قراري الحاسم، سوف أدرس الاخراج السينمائي.

 

شارك الخبر على