ستبقى قيامة المسيح أقوى من أردوغان (بقلم جورج عبيد)

حوالي ٥ سنوات فى تيار

تلذّذ السيد الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان بالكلام على الحضارة السوداء، وكانت القمّة عنده سنة 2011 حينما خطب في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وجاء تلذّذه معبّرًا عن حقيقة صارخة تجافي ما رنا إليه المشرق العربيّ، من تفاعل خلاّق بين الأديان والحضارات، وهي أن الحضارة البيزنطية (الحضارة السوداء) أو العهد البيزنطي الذي انتهى مع محمّد الفاتح سنة 1453م كانت حضارة سوداء فيما هي حضارة مجد استنزلت السماء بطقوسها ووشحّت هذا المدى ببهائها وغسلت النفوس بأنغامها وصقلت العقول بفلسفتها، وكانت كاتدرائيّة الحكمة الإلهيّة تحفتها للعالم حيث تجلى فيها بهاء الملكوت وتناثر ضياء بعبادات كان يسوع المسيح وجهها. 
 
هذا الرجل أعادنا إلى ذلك التاريخ الصادم يوم انتهكت الكاتدرائية، التحفة المعمارية التي لا مثيل لها في الشرق، وحولها محمد الفاتح إلى جامع، على أطلال نيقية، وبعد مجازر رهيبة لم يحصل مثلها في التاريخ إلاّ المجزرة التي ارتكبها الأتراك-العثمانيون مع الأرمن والسريان وبعض من الروم الأرثوذكس سنة 1915 وقد كانت بدورها رهيبة ولا تزال جرحًا ينبض في قلب الإنسانية إلى اليوم، والأرمن لم ينسوا بعد ذلك التاريخ اللعين والكريه، بل هو جزء من تراثهم الروحيّ والقوميّ، وبالنسبة لنا جميعًا لقد ذبح يسوع المسيح داخل الكاتدرائيّة وفي أسوارها كا ذبح بالمجزرة التي ارتكبها العثمانيون سنة 1915، وبقرار السيد أردوغان  بتحويل هذا المعلم الروحيّ الكبير، الذي كان مصطفى كمال قد حولّه إلى متحف خلال الحكم العلمانيّ إلى جامع يكون قد ذبح المسيح مرّة، وإئتلف مع الفكر الصهيونيّ والإسلامويّ المتشدّد بضرورة إنهاء المسيحيين من المشرق بتاريخهم وحاضرهم، بمعالمهم الروحيّة وتألقهم الثقافيّ وسطوعهم الروحيّ. وكلّ ما أظهرهم سابقًا من عداء لإسرائيل والصهيونيّة يبقى من قبيل المناورة الخادعة.
 
لماذا قرّر رجب طيّب أردوغان في هذه اللحظة بالذات تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، ومن أعطاه هذا الحقّ؟ ثمّة معلومات كشفت مؤخّرًا بأن ثمّة عوامل حفّزت أردوغان على هذا القرار، منها معرفته الدقيقة بالصراع الأرثوذكسيّ-الأرثوذكسيّ، إسقاطًا للصراع الأوكرانيّ-الروسيّ، عدم قدرة البطريرك المسكونيّ برثلماوس على التفاعل مع مسألة دقيقة كهذه نظرًا لتورطه في الصراع مع كنيسة روسيا بسبب اعترافه باستقلال كنيسة أوكرانيا وبسبب إحكام قبضة النظام على تحرك المسيحيين في تركيا وهم  قد غدوا قلّة، علمًا أن البطريرك سبق أن تمنّى على أردوغان بالسماح لمعهد اللاهوت في خالكي بفتح أبوابه واستعادة كنيسة أيا صوفيا، وما حاز على إجابة واضحة. ثمّ استند أردوغان على المجزرة التي حصلت في نيوزيلاندا داخل الجامع، وقد يكون اعتبر كما هو قائم في فكر الإخوان المسلمين لا سيما عند يوسف القرضاوي وسواه ومعظم الإسلامويين بأن من قتل المصلين في المسجد يمثّل الصليبية الجديدة New Crusade ويجب إبادة المسيحيين لهذا السبب، ومصادرة كنائسهم وتحويلها إلى جوامع للمسلمين، في حين أنّ التحقيقات كشفت بأن مرتكب المجزرة منتم إلى فصيل تكفيريّ متشدّد، كان رجب طيب أردوغان على علاقة به، أي بهذا الفصيل، ويتورّع أردوغان دومًا بربط المسيحيين المشارقة أو العرب بالحقبة الصليبية التي غزت الشرق، في حين أنّ الحملة لم توفر المسيحيين بل قتلتهم وشردتهم وسلبت منهم كنيسة القيامة في القدس، وكانوا بالحقيقة حلفاء لأجداد أردوغان في القضاء على بيزنطية، وقد احتلّ السلاجقة-الأتراك مع محمد الفاتح القسطنطينيّة بتغطية واضحة من الغرب.
 
لا يمكن قراءة قرار رجب طيب أردوغان بالعابر. بل إنه قرار عقيديّ مهّد له بمجموعة رؤى، بدأها بكلامه على الحضارة السوداء في اجتماع وزارء الخارجية العرب في القاهرة سنة 2011، ثمّ منذ سنة أي بتاريخ 25-08-2018 وفي ذكرى معركة ملاذكرد التي وقعت بتاريخ 25-08-1071، حيث انتصر السلاجقة الأتراك على البيزنطيين، قال: "إنّ انتصار ملاذكرد، (وهو يقصد انتصار السلاجقة الأتراك) وضع الأجداد من خلاله أسس حضارة، مثّلت العدل والرحمة والسلام"، وكأنّه ينفي وجود تلك الأسس في الخضارة البيزنطية وهي مسيحيّة-أرثوذكسيّة بامتياز، كان لها التأثير الكبير بسبب إغريقيّتها وهللينيّتها في آن على أوروبا والمشرق العربيّ برمته. وبتصوّر من تابع ويتابع تداعيات قرار خطير ووجوديّ كهذا، لا يمكن أن ينفي ارتباطه بتلك المقدمات الواضحة التي تشي عن حقد عقيديّ دفين عند أردوغان للمسيحيين، فأيقظ تاريخ محمد الفاتح من سباته، وفتح الجراح مجدّدًا، ولعلّه كممثّل للسنّة المشارقة (هكذا ادّعى ويدّعي في صراعه مع السعودية على احتكار المرجعيّة السنيّة بين الخليج والمشرق) يشاء وضع الإسلام الحنيف في مواجهة واضحة الآفاق مع المسيحية المشرقيّة بصورة مباشرة، بعدما فشل في ضربها وإبادتها بالكليّة في سوريا ولبنان، وإن نجح بنزوحها من العراق، فالتسوية العراقية الجديدة تعمل على عودتهم. فالمواجهة المباشرة بزعمه، ستخلق بؤرًا متوترة في المدى اللصيق بتركيا، ومتى تمّ التوتّر يحدث الشغب، فيسهل عنده بثّ النيو-عثمانية كخيار ثابت، علمًا انّ إمكانياته بدأت تضمر وقواه أمست تخور إنطلاقًا من المدى السوريّ وصولاً إلى الداخل التركيّ، والضربة التي وجهت له في الانتخابات البلديّة ضمن ثلاث مدن أساسية ستستدرجه ليصير اكثر ديكتاتوريّة وتوحّشًا للإمساك بالنظام، وقد أكّدت معظم الدراسات بأنّ ازدياد منسوب التوحّش يعبّر عن ضعف وخوف وليس عن قوّة.
 
مشهد واضح كهذا، يفترض به أن يستفزّ المسيحيين جميعًا لكي يمضوا في مواجهة هذا القرار ويهبّوا من أجل مسيحهم. لقد خطف لنا مطرانان بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم، ونحن في ذكرى خطفهما، ولم نهبّ من أجل معرفة مصيرهما وللتحفيز على التفاوض مع الجهة الخاطفة،  وبعض المعطيات لا تبرّء النظام التركيّ من التورّط في الخطف. وقد أكّدنا غير مرّة كما أكّد الوزير جبران باسيل بأنّ خطفهما اختطاف للمسيحية المشرقيّة. بالأمس القريب تمّ تشويه رموزنا في إسرائيل بالاعتداء على صليب الرب وتشويهه من قبل مجموعة صهاينة ولم يهبّ واحد منا للاحتجاج والرفض، ذبح أحباؤنا في وادي النصارى وكسب ويقصفون ويقتلون الآن في محردة والسقيلبية من قبل جماعة أردوغان ونحن لاهون ولا ننبثّ ببنت شفة، ثمّ يوزّعون في لبنان أحذية عليها رموزنا المقدّسة "وما بتفرق معنا"، إلى أن سطّر أردوغان قراره اللعين بتحويل آيا صوفيا إلى جامع ونحن صامتون... فإلى متى يبتلعنا النوم الطويل وتلهينا عن حقيقتنا الحضارة الاستهلاكية وتأكل من مناعتنا، إلى متى وكما قال حبيبنا الكبير المطران جورج خضر نبقى" مسيحيين بلا مسيح"؟
 
في هذا الخضمّ، الرجاء معقود على مسيحيي لبنان بالدرجة الأولى، لأنهم وحدهم يملكون القدرة على الحراك والاحتجاج، لا سيّما أن رئيس لبنان العماد ميشال عون هو زعيم مسيحيّ مشرقيّ وبصورة أوضح إنه زعيم المسيحيين المشارقة من فلسطين إلى العراق، وهو بدوره يملك الوائل الدبلوماسية للاعتراض أمام المراجع الدوليّة على قرار جائر كهذا على الرغم من صداقة لبنان مع تركيا. كما أنّ الرجاء معقود على دولة روسيا التي تتعاطى مع تركيا كشريكة لها في التسوية السياسيّة في سوريا، وبرأيي كثيرين إن الرئيس فلاديمير بوتين قادر على ردع أردوغان عن قراره ومنعه من تنفيذه، والرجاء بدوره معقود عل كلمة واضحة من الفاتيكان إذا كان مسيحيو الشرق لا يزالون قائمين في وجدانه، وقد أهداهم البابا بينيديكتوس السادس عشر إرشادًا رسوليًّا يعينهم على تدبير شؤونهم. والرجاء الأكبر معقود على المسلمين العرب بدءًا من المرجعية السامية أي الأزهر الشريف مع إمامه الشيخ الدكتور أحمد طيّب الذي دعا منذ أشهر لحوار في رحاب الأزهر ما بين المسيحيين والمسلمين تم الوصول من خلالها إلى وثيقة حيّة وجديدة تؤكّد عمق الشراكة المسيحيّة-الإسلاميّة، لكي يقفوا بوجه أردوغان في قراره الفتنويّ.
 
وعلى الرغم من كل ذلك، سيدرك السيد أردوغان الذي بنى له قصرًا فخمًا على حساب الفقراء والكادحين في تركيا وأبطل قوّة الجيش وألغى العلمانية، بأن قيامة المسيح، وكما كتب صديقي الحبيب عماد جوديّة في تعليق على مقال لي نشر في موقع الليبانون فايلز حول هذه المسألة "ستبقى أقوى من أردوغان وأمثاله" وهو عنوان هذه العجالة. اليهود كرهوا ويكرهون المسيحيين لأنهم يذكرونهم وكما قال أيضًا عماد بأنهم قاتلوا المسيح كما هم قاتلوا الأنبياء والمرسلين إلى أورشليم كما قال السيد المبارك، ويذكرونهم بأن المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت رغم أنوف الحراس وإرادة رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين. والمسيحيون يذكّرون السيد أردوغان بمجازر أجداده السلاجقة وبكنيسة آيا صوفيا وبمجزرة الأرمن والسريان، فلا بدّ من سلب معلم مثّل في التاريخ مرجعيتهم في الشرق، فبقتل المسيح بدوره بقراره، لكنّ المسيح لن يبقى يا سيد أردوغان معلّقًا على الخشبة بل ستراه منتصرًا مضيئًا ساطعًا في هذا الليل الطويل الحالك، وستتذكّر حينئذ الآية الكريمة في سورة مريم القائلة: "سلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا". إنه النصر الجديد فانتظره.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على