سردُ غنائي في رواية «١٩٠٠» لألساندرو باريكو

حوالي ٥ سنوات فى تيار

كه يلان محمد - وردت مفردة الغنائية غالباً لوصف اللون الشعري الذي يفيضُ بالعاطفة ويعكسُ المشاعر الوجدانية العميقة. ويتميّزُ هذا النوع من الشعر بصرف الإهتمام عن المواضيع التي تقع خارج هموم الذات الشاعرة. طبعاً ما كتبهُ الإيطالي ألساندرو باريكو بعنوان «1900» يتّصفُ بخصائص غنائية على مستويات عدة، ويمكنك أيضاً أن تضع هذا النص السردي القصير ضمن خانة المسرحيات المُغناة.

إنّ ما يدعمُ الجانب الغنائي في بناء النصّ هو إنفراد إحدى الشخصيات بالمشهد.إذ يسردُ الراوي المُتضمّن سيرة عازف البيانو، فالأخير هو نواة النص المفتوح على التقنيات المتنوّعة من المسرح إلى السيناريو والقصة.
البنية المكانية
ان البنية المكانية التي تنطلقُ منها الأحداث هي عَبارة فرجنينيان، أمّا العنصر الزمني فتعبّرُ عنه الإشارات إلى التواريخ التي تُحيل إلى الشخصية الأساسية.
وبذلك، يكونُ البطلُ مركز السيرورة الدلالية في بنية النص، لأنَّ كل ما وردَ في سياقه يرفدُ مسارات الشخصية التي يؤشرُ إليها العنوانُ، الذي لأول وهلة تراهُ مجرّدَ رقمٍ مُحدٍد لتاريخ معيّن، لكن هذه العتبة مُتعلّقة بمفردات لا يمكنُ فكّ شفيراتها إلّا مع قراءة المحتوى السردي.
يُذكرُ أنَّ إسم البطل يلفّه الغموضُ وليس مُسجّلاً ضمن أضابير أي مدينة في العالم، إنما هو عائم على البحر ولا تعني له اليابسةُ شيئاً.
لكن إختلاطه بجنسيات مُختلفة على ظهر العبّارةِ مكّنهُ من النفوذ إلى المدن المأهولة بحاناتها الصاخبة وشوارعها المُبللة برائحة المارة، ما يعني تميّز البطل في قراءة البشر على حدِّ تعبير الراوي. وهكذا بدأت تقاسيم جغرافيا العالم بالتكوين في ذهن «1900» بناءً على ما يوحي به وجه ركّاب العبّارة.
العُلبة
تبدأُ حركة السرد برصد المشهد المُتكرّر، إذ أنّ هناك من يسبقُ جميع المُسافرين في رؤية الوجهة التي تمخرُ العبارة ُ الأمواج نحوها، فيلتفتُ إلى الركّاب مُطلقاً صوتاً مُنخفضاً «أميركا».
يوكلُ صاحبُ «المدينة» بعازف البوق مهمّة متابعة وقصّ ما يدور على متنِ العبّارة. فهو كثيراً ما يرى أميركا في عيون المُسافرين وقضى ست سنوات ضمن الفرقة الموسيقية التي يعزفُ أفرادها يومياً ثلاث مرّات. إذ أنّ ركّاب هذه السفينةِ توزّعوا على المقيمين في الطبقة الأولى ومن ثم منْ يسكنون في الطبقة الثانية، وأخيراً المهاجرين البؤساء الذين قد يُنْعَمُ عليهم أحياناً بمعزوفة تزيدهم الأمل بالأحلام الموعودة.
وما يجعلُ الموسيقى ضرورية في عرض البحر هو رهابة هذا العالم وحاجة المُسافرين إلى الرقص حتى لا يموتوا.
طابع عجائبي
يعتمدُ المؤلفُ على المفارقة لإضفاء طابع عجائبي إلى الشخصيات المتواجدة في العبّارة. لذا يصفها الراوي بأنها خارجة عن المألوف. فقبطانها يعاني من رهاب الإحتجاز، ومسؤول الإتصالات ألكن وأعسر.
كذلك، فإنَّ الطبيب تنفر من إسمه المعقّد، والربّان أعمى. وما لا يُتوقع مُصادفته خارج هذا المكان هو وجود فرقة موسيقية بمواصفات فرقة «أتلانتك جازباند»، وهنا يستندُ باريكو إلى التقنية المسرحية لتقديم أعضاء الفرقة الموسيقية على لسان إحدى الشخصيات.
 

 

وآخر من يُنطقُ إسمه عازف البيانو «ت.دليمون 1900» الموصوف بالعازف الأعظم. يُعيدُ هذا الملفوظ بالمتلقّي إلى عتبة العنوان. فبالتالي، يفردُ عازف البوق المساحة السردية لتتبّع حياة عازف البيانو. ومن المعلوم بأن ما يشدُّ أطراف النصّ هو العبارات التي يبقى مدلولها ضبابياً إلى أن ينجلي الغموض بوجود مقطع آخر.
وما يقولهُ الراوي عن لقائه الأخير بعازف البيانو بأنَّه كان جالساً على صندوق الديناميت لا يمرُّ عابراً، إنما ترتبطُ به نهاية النص. ضف إلى ذلك ما ينقلُ عن عازف البيانو بصيغة الحكم «لا تحلُّ عليك اللعنة ما دمتَ تحظى بقصة حياة فريدة وأحد ما يرويها على مسامعه»، مؤشرُ لإنطلاقة قصّة الرضيع الذي وُجد في علبة كرتونية.
الهارب
شاء القدرُ أنْ يكون داني بوودمان مُكتشفاً للعُلبة التي وُضع فيها المولود، وذلك بعدما ينزل المُسافرون في بوسطن. آنذاك كان عمر الرضيع لم يتجاوز عشرة أيام. ولم يجد العجوزُ ما يثبتُ هوية الطفل سوى كلمات مكتوبة بلون أزرق «ت .د.ليمون».
أخيراً، يتعهّدُ الزنجي بالطفل مُقتنعاً بأنَّ العِبارةَ المطبوعة على كرتون تعني «شكراً يا داني»، ومن ثُمَّ يقترحُ أحد البحّارة على الأخير إضافة كلمة الثلاثاء إلى إسم الطفل، وبدوره يروق ذلك لداني لأنَّه عثر على العلبة في بداية القرن. عليه، فإنَّ الطفلَ يُسمّى بـ»داني بوودمان.ت.د1900».
وقد نجح المؤلّف في توظيف تقنية التلخيص في سرد حياة البحّار داني إلى أن يُصاب بطعنةٍ جرّاء سقوط إحدى البكرات وهذا ما أقعدهُ. وفيما كان البحّار يحتضر إستمرّ الطفل في قراءة أخبار السباق على مسمعه. ينطقُ الحروف كما تعلّم من داني أن يضغط بإصبعه على ورقة وتركيز نظره على الحرف.
بعد رحيل العجوز يصبحُ بوودمان يتيماً من جديد، وما زاد من معاناته هو عدم إمتلاك الأوراق الثبوتية لأي دولة وما إنتسب إلى أي شعب، لذا قرّر قبطان السفينة تسليم 1900 إلى السلطات في ميناء ساوثامبتون، ولكن يختفي الطفلُ وتفشل حملة التفتيش للإمساك به.
يتأسّف البحّارة على غياب 1900 ويصعبُ عليهم تلاشي ظلّه، لكن ما أن تنطلق العَبّارةُ نحو ريو دي جانيرو حتى يتفاجأ العريف بوجود 1900 في صالة الرقص جالساً على كرسي البيانو يعزف كأنه سديمُ تغلغل لحناً إلى الأعماق، بحيث تسمّرت زوجة مقاول أميركي مستغربةً المشهد وما كان منها إلّا أن ذرفت الدموع.
مُنازلة
تشهدُ سفينةُ فرجينيان منازلة موسيقية بين جيلي رول مورتن و1900، فالأول بدأ مسيرته عازفاً في بيت الدعارة وذاعت شهرته على نطاق واسع. وهذا الحدث يذكّرك بما سردهُ ستيفان زفايغ في رواية «لاعب الشطرنج» عن مبارزة في لعبة الشطرنج بين شخصين أحدهما تعلّم في السجن والثاني كان بطلاً عالمياً.
والغريب في الأمر أنّ 1900 ما كان يعرف شيئاً عن التنافس. يتناوبُ الإثنان على العزف، يبرزُ مورتن براعته في العزف لدرجة بدأت الكفّة تتأرجح لصالحه، غير أنّ 1900 في عزفه الأخير يسحر الجمهور يترأى لهم كأنَّه يعزف بمئة يد، وفي حركة إستعراضية يُشعل سيجارةً بمفاتيح البيانو يقدّمهُا لخصمه قائلاً له «خذ دخنها أنت».
لعلَّ هذا المشهد في النص أكثرُ درامية مما يتوالى لاحقاً باستثناء محاولة 1900 النزول إلى اليابسة ومن ثم تراجُعهِ. ومن يغادرُ السفينة هو الراوي بعد أن قضى 6 أعوام في جنباتها. إلى أن يتلقّى رسالةً من أحد الأشخاص يخبره أن الفرجينيان عادت معطوبة من الحرب وأصبحت مُعبّأةَ بالديناميت ويفجّرونها في البحر.
يسافرُ الراوي نحو بلايماوث ويتسلل إلى السفينة الراسية في الميناء، هناك يجد العازف، والحال هذه فيكونُ المتلقي مُتابعاً للمشهد الحواري بين الإثنين يستعيدُ العازف لحظة رغبته للنزول إلى اليابسة، كما يومىء إلى المرأة التي عندما غابت إنسحبت معها كل نساء العالم. وينتهى النص بما يُذكّرك بكلام الراوي بأنَّه قد رأى العازف جالساً على ديناميت.
يُذكر أنَّ بناء القصة يتناصُ مع ما ورد في الروايات الدينية عن العثور على طفل داخل صندوق تتلاعب به أمواج البحر. 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على