نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا (١١ ديسمبر ١٩١١ – ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦) هو كاتب مصري. يُعد أول مصري وعربي حائز على جائزة نوبل في الأدب. كتب نجيب محفوظ منذ الثلاثينات واستمر حتى ٢٠٠٤. تدور أحداث جميع رواياته في مصر وتظهر فيها سمة متكررة، هي الحارة التي تعادل العالم. كتب نجيب محفوظ أكثر من ثلاثين رواية اشتهرت غالبيتها وتم إنتاجها سينمائيًا أو تلفزيونيًا وكانت أول رواياته هي عبث الأقدار (١٩٣٩)، أما آخرها، فكانت قشتمر (١٩٨٨)، كما كتب أكثر من عشرين قصة قصيرة وكان آخرها أحلام فترة النقاهة (٢٠٠٤). ومن أشهر أعماله: بداية ونهاية (١٩٤٩)، والثلاثية (١٩٥٦–١٩٥٧)، وأولاد حارتنا (١٩٥٩)، والتي مُنعت من النشر في مصر منذ صدورها وحتى وقتٍ قريب، واللص والكلاب (١٩٦١)، وثرثرة فوق النيل (١٩٦٦)، والكرنك (١٩٧٤)، والحرافيش (١٩٧٧). بينما يُصنف أدب محفوظ باعتباره أدبًا واقعيًا، فإن مواضيعًا وجودية تظهر فيه. محفوظ أكثر أديب عربي نُقلت أعماله إلى السينما والتلفزيون. ويكيبيديا

عدد الأخبار كل يوم من ولمدة حوالي شهر واحد
من أهم المرتبطين بنجيب محفوظ؟
أعلى المصادر التى تكتب عن نجيب محفوظ
في حبّ ميرفت أمين (تدوينة) عمر خليفة ٢ سبتمبر ٢٠١٧ في أحد مشاهد فيلم حسين كمال الشهير «ثرثرة فوق النيل»، والقائم على رواية نجيب محفوظ، تكتب الصحفية سمارة (ماجدة الخطيب) تأملات حول سائر شخصيات الفيلم، ومنها الفتاة سناء التي تصفها سمارة بكونها «الجيل الضائع. لا ثقافة ولا تربية». ورغم المسحة الأخلاقية الرجعية التي غلفت رسم شخصية سناء في الرواية والفيلم، وربطها بين التحرر الجنسي والضياع، فإن تلك الجملة تلتقط شيئًا هامًا، ليس عن سناء، وإنما عن الفتاة التي جسّدت شخصيتها في الفيلم ميرفت أمين. كان ذلك من أوائل الأفلام التي ظهرت فيها ميرفت أمين، والتي ساهمت في ترسيخ صورتها الطاغية في سبعينيات القرن الماضي. ميرفت هي الجيل الضائع، سينمائيًا وقوميًا ومجتمعيًا. ماذا ستفعل أجيال من الممثلات المصريات بعد فاتن حمامة وسعاد حسني؟ ماذا ستُبقي لهن نكسة ٦٧؟ فاتن حمامة وزميلاتها لم يكنّ ممثلات فقط. كنّ مجازات واستعارات لأشياء أبعد من فيلم هنا أو مشهد هناك. ذاك زمن لم يكن فيه ربط المرأة بالوطن مكررًا ومألوفًا لحد الابتذال كما هو الحال الآن. مصر امرأة، كما يشير كتاب الباحثة الأمريكية بيث بارون. المصريون، كبعض الشعوب الأخرى، تخيلوا وطنهم امرأة؛ أمًّا في أحيان كثيرة، وحبيبة أيضًا، منذ ثورة ١٩١٩ وما تلاها. انعكس تأنيث الوطن هذا على علاقة المصريين (والعرب) بالشخصيات النسائية العامة، ومنها نجمات السينما. لم يكن التقسيم الساذج الذي شاع في السينما المصرية، بين القديسات (وعلى رأسهن فاتن) ونجمات الإغراء كهند رستم وهدى سلطان، مجرد مسألة أخلاقية، فطبيعة الأدوار التي أسندت لفاتن غلب عليها الضعف ومسكنة الأنثى التي تحتاج لرجل كي يحافظ عليها ويحميها. ومن يقرأ التعليقات التي رافقت عرض فيلم صلاح أبو سيف «لا أنام» في دور السينما المصرية، والذي كسرت فيه فاتن صورتها العامة، يفاجؤه رد فعل الجمهور الغاضب على دور فاتن في الفيلم، الجمهور الذي يكشف عن مماهاة كبيرة بين فاتن حمامة الحقيقية وأدوارها على الشاشة. فاتن هي مصر كما يريدها أغلب المصريين؛ لا تَخْدِش ولا تُخْدَش. جاءت سعاد حسني طبعًا، وأحدثت ما أحدثته من معان في الوطن المرأة في ستينيات القرن الماضي، مما لا يسع المجال لذكره هنا، لكن نكسة ٦٧ أجهضت ذلك التطور الطبيعي لحضور المرأة السينمائي وتعقيده. النكسة قتلت مصر، وكسرت زعيمها التاريخي. وإذا كان الوطن الحقيقي ذاته ضائعًا، فأي امرأة تلك التي سيماهيها به الناس؟ الأثر الإيجابي للنكسة على السينما المصرية كان أن تحررت المرأة من أن تكون رمزًا. المرأة في السينما المصرية في السبعينيات هي المرأة فقط، وبالنسبة لي، هي ميرفت أمين. في أفلام السبعينيات كان على ميرفت أن تحضر على الشاشة فقط كي يبدأ إغواؤها وسحرها. ليس ثمة سرد يبرّر انجذاب الرجال لها. لا قصة حب تنمو وتتطوّر. تفتح ميرفت الباب وتدخل كي يشهق الممثل الذي معها، ويشهق معه الجمهور. فتنتها أراحت المخرجين وكتاب السيناريو من تطوير الأحداث وتعقيدها. خلافًا لنجلاء فتحي التي أعادت تمثيل أدوار الخمسينيات القائمة على قصص حب مستحيلة يتخللها عذاب الفراق والشوق والانتظار، فإن ميرفت كانت العنوان الفوري لعلاقة ملتهبة لا مجال فيها سوى لجسدها الأخاذ كي يفرض حضوره الذي لا يقاوم على من أمامها. تجسد ذلك المشاهد الأولى التي تظهر فيها في أفلامها. في «الحب تحت المطر»، تدخل الاستديو فيترك الممثل خطيبته لأجلها. في «ثرثرة فوق النيل»، تظهر في أول مشاهدها فيلغي أحمد رمزي جلسة التصوير ويصطحبها للبيت. تقتحم مكتب محمود ياسين في «غابة من السيقان» فينتهي كل شيء. وحتى في أدوارها الأكثر براءة في «أبي فوق الشجرة» و«الحفيد»، فإن الفيلم يبدأ بعد قصة الحب، لا قبلها. أية قصة هذه التي ستبرّر انجذاب الرجال لميرفت؟ محظوظة ميرفت أمين. هي ليست استعارة ولا مجازًا لشيء. لا تصلح لأن تكون «مصر» ولا سواها. لا تعيش لغيرها في السينما. ميرفت شيطان وملاك معًا، تقفز من صورة لأخرى بسهولة كسهولة الزمن الذي أنتجها. لا تحمل على عاتقها تمثيل أمة. هي الجيل الضائع السعيد بضياعه. أدوارها ذاتية جدًا، رديئة في أحيان كثيرة وجيدة في أحيان أخرى، لكنها فيها كلها ميرفت أمين. وعلى عكس فاتن حمامة التي أبحث في أدوارها عن رموز أخرى خارجها، فإنني في أدوار ميرفت أمين لا أبحث إلا عنها هي فحسب. في «ثرثرة فوق النيل» و«أنف وثلاثة عيون» و«الحفيد» و«غابة من السيقان» و«أعظم طفل في العالم» و«السلم الخلفي» وغيرها، من الصعب أن أتابع الدور ذاته. من الصعب أن تكون ميرفت أمين شيئًا آخر سواها. حضورها الأنثوي الرهيب يخنق تلك المسافة المطلوبة بين المؤدِي والمؤدَّى. لا أدري حتى اللحظة إن كانت ممثلة عظيمة أم لا. لا يعنيني في الحقيقة. فقط ميرفت أمين تعنيني . ميرفت امتحان خطير أمام التزام المرء بأفكار تقدمية هامة قدّمتها لورا ميلفي وسواها حول ما يسمى بـ«تلصص الرجل» و«المتعة البصرية». تعاملت السينما في أغلب مراحلها مع جسد المرأة من منظور الرجل المخرج، الذي كانت كاميراه تتلصص وتدعو المشاهدين لمشاركتها التلصص على جسد المرأة. وتحرر المرأة سينمائيًا هو، في جزء أساسي منه، تحرر من هيمنة المتعة البصرية الذكورية التي تسيطر على الإنتاج السينمائي في العالم. ماذا نفعل مع ميرفت أمين إزاء كل هذا؟ أين نضع الخط الفاصل بين عشق الجسد وتشييئه؟ فيلم «أعظم طفل في العالم» مثلًا تلصصي بامتياز، وهو واحد من أردأ ما أنتجته السينما المصرية. هذه نقطة. لكن النقطة الثانية أنني ممتن لكل لحظة ظهرت فيها ميرفت أمين في هذا الفيلم. المشاهد ذاته يتلصص على كاميرا المخرج الذي يتلصص على جسد ميرفت هنا، يحاول أن يسرق منه الهواء الذي يلفها، يريدها له وحده، يريد القبض على رائحتها، أن يسكن بين نهديها وهي تعريهما وتقبض عليهما في لقطات قلَّ مثيلها في السينما المصرية. رغم كل هذا لم تُصنَّف ميرفت كنجمة إغراء، على غرار ناهد شريف وشمس البارودي، وحتى في شبابها لم تصل لأن تكون فتاة غلاف كبرى كنجلاء فتحي ومديحة كامل. ثمة شيء خاص بميرفت، شيء يحجبها حتى في أشد لحظاتها فتنة، ربما لهذا تواصل العين البحث عنها حتى وهي أمامنا. قد يكون صوتها الخافت الذي تحتاج أحيانًا للاقتراب من الشاشة كي تسمعه. يغيظني صوتها أحيانًا. أشعر أنه لا يعنيها وجودنا كمشاهدين. هي لا تتحدث إلينا. لا تقف أمام الكاميرا لتقول شيئًا. جسدها نص ناطق. لا تحاول أن تغري أحدًا. هي تكون ذاتها فقط. ليس ذنبها أن تكون ميرفت أمين. كيف تحمَّل المخرجون رؤيتها؟ كيف تعاملوا مع جسدها بتلك الاعتيادية التي تسمح لهم بتوقيف المشهد مرارًا وتكرار تصويره؟ اشرح ما يلي ميرفت أمين. التنورة التي تلتف على المؤخرة والفخذين. قلم الحمرة التي يصطك خائفًا بشفتيها. بقية اللعاب على شفاه الممثلين الذين قبلوها. المسافة التي تفصل بين ركبتيها والشورت الذي ترتديه. الجزمة التي ارتدتها في «أنف وثلاثة عيون». راحة يديها حين تلتف على أعناق عشاقها. الخاصرة التي ضغط عليها محمود ياسين. الأظافر المطلية بالأحمر التي اعتصرها أحمد رمزي. كل شبر فيها. كلُ كلٍ فيها. أهم أفلام ميرفت أمين هي تلك التي لم تكن فيها ميرفت أمين. تلك التي لم يكن جسدها محور العالم السردي للفيلم. منحها تقدمها في السن في الثمانينيات وما بعدها فرصة عظيمة سينمائيًا، قلَّل من وهجها، خفف من سطوة صدرها وفخذيها. ما اجتمع جسد ميرفت أمين ونص إلا وكان التلصص ثالثهما. وحين غاب التلصص ظهرت أفلام مثل «زوجة رجل مهم» و«سواق الأوتوبيس» و«الأراجوز»، رغم أن ميرفت لم تكن البطل الأساسي فيها. أفلام هامة طبعًا، لكن المشاهد، في جزء خفي منه، يحنّ إلى ميرفت الأخرى، وربما تكون ميرفت ذاتها تحن إليها. كسبنا سينما، لكننا خسرنا ميرفت أمين. ثمة مشهد معبر في فيلم «غابة من السيقان». يحاول محمود ياسين عبثًا الهروب من سطوتها. يواعدها في النادي وهو متردد، ويخرج مصممًا ألا يراها في اللحظة التي تدخل فيها هي لحديقة النادي. تدرك هي ما يحدث داخل عقله. تقف أمامه بعنفوانها، وهو واقف أمامها كأبله، وتسأله «واقف ليه؟ مش كنت خارج؟ مش كنت هربان؟ ما تهرب.. حد ماسكك؟» ثم تجرُّه من يده. المخاطَب في المشهد ليس محمود ياسين فقط، بل نحن. تتحدانا ميرفت أمين. تراهننا على أن نغمض أعيننا أمامها. أن نهرب من ظلالها. أين نهرب حين نهرب؟ هذه ليست سينما. ليست تمثيلًا لواقع ما. ميرفت تكون، وعلى الكل أن يتعامل مع هذا الواقع الجنوني، تمامًا كما تعامل معه محمود ياسين في الفيلم. «ما تهرب.. حد ماسكك؟» أجل يا ميرفت، ثمة شيء يمسكنا، شيء لا ينفع معه هدم الجدار لبريخت ولا نظريات أرسطو التطهيرية. لا نشاهد ميرفت لنخاف أو نحزن أو نشعر بالسعادة. نشاهد ميرفت كي نشاهدها، فقط.
نجيب محفوظ.. انتصار الدراما وشخصيات أهلكها البحث رامي وفا ٣١ أغسطس ٢٠١٧ «الحقيقة بحث وليست وصول» أول دروس بناء الشخصية التي يتعلَّمها دارسو الدراما هي ألا تكره بطلك أبدًا، فمعنى هذا أنك لم تعرفه جيدًا بعد، فكل إنسان يجد لأفعاله، مهما كان سوءها، مبرِّرًا أو حكمة تقف وراءها، وفي أسوأ الأحوال يراها رد فعل لظلمٍ ما يتعرض له. بهذا التناقض تصبح للشخصية أبعاد حقيقية وتزداد تعقيدًا. هذا التعقيد في بناء الشخصيات هو ما يخلق الدراما ويحرِّك الأحداث. وما ينطبق بالطبع على كراهية كاتب الدراما لشخصياته ينطبق كذلك على التعلق بها. كان نجيب محفوظ أستاذًا في بناء شخصياته، ما يجعل إطلاق الأحكام السهلة على أبطاله مستحيلًا، وما يضع بدوره قارئه في حالة شك دائمة؛ هل يكره اللص سعيد مهران أم يتعاطف مع مأساته؟ هل يحتقر محجوب عبد الدايم أم يقدّر ظروفه؟ هل يحترم لهاث عثمان بيومي وراء المنصب أم ينعته بالحمق؟ تدفع حالة الشك هذه القارىء للبحث عن ذاته. وكلمة «البحث» هذه ترتبط في ذهني بأدب محفوظ، فهي كلمة السر في خلق شخصياته. في هذا المقال، أحاول استعراض ثلاثة من أبطال رواياته، يفتِّش كل منهم عن شيء يفتقده، إما بشرف أو بارتكاب الحماقات أو حتى بالتسوّل، لكن ما يجمعهم هو حالة البحث الدائمة هذه، والتي تدفع بثلاثتهم نحو اكتمال مأساتهم. ١ عُمر حمزاوي.. البحث عن النشوة «نشوة الحب لا تدوم ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر» عمر حمزاوي الشحاذ عمر حمزاوي بطل رواية «الشحّاذ»، محام لامع في الخامسة والأربعين من العمر، أصابه الداء الذي ليس له دواء بتعبير المفكر جورج طرابيشي. يكتشف فجأة فراغ حياته من المعني، فيفقد رغبته في العمل، ويُصاب بالسأم بعد أن يكون وصل لكل شيء أراده. هنا تبدأ الأسئلة الكبيرة في الظهور. يذهب لطبيبه الخاص، ويلخِّص مأساته له قائلًا «ليس تعبًا بالمعنى المألوف، يُخيّل إليّ أني لا زلت قادرًا على العمل ولكني لا أرغب فيه. لم تعد لدي رغبة فيه على الإطلاق، تركته للمحامي المساعد في مكتبي، وكل القضايا عندي تؤجل منذ شهر، وكثيرًا ما أضيق بالدنيا، بالناس، بالأسرة نفسها، فاقتنعت بأن الحال أخطر من أن أسكت عنها، وكما هو الحال في كل مرض، يحلو للمريض أن يتصوّر أن له سببًا عضويًا ويأمل أن يجد له علاجًا بحَبّة بعد الأكل أو ملعقة قبل النوم.» حمزاوي الذي كان مناضلًا وشاعرًا وثائرًا، تحول مع الوقت لمحام لامع مشهور شديد الثراء؛ لقد ترك كل ما أحبّ خلف ظَهره، الشعر والثورة والنضال السياسي لم يعودوا عليه بالنفع، فقرر مثل الكثيرين أن يهجر ما لا ينفعه، وأن يحقق انتصارات ملموسة في واقع الحياة مهما كان ثمنها. واليوم يستيقظ حمزاوي من النوم ليكتشف عطبًا في روحِه؛ عطبًا بالكاد يستطيع وصفه للطبيب، الذي لا يمتلك له غير إجابة «الدواء الحقيقي بيدك أنت وحدك». ولأن الأشياء تُدرَك من نقيضها، فكان لأصدقائه دور في إبراز تركيبته المعقدة. هناك مثلًا عثمان خليل المناضل السياسي الذي يرزح في السجن منذ عقدين، والذي مع اقتراب الإفراج عنه، تبدأ الأعراض المَرَضية في الظهور على حمزاوي. أيضًا هناك مصطفى منياوي الذي تحوّل للعمل بالصحافة والتلفزيون، بعد أن كان شاعرًا وفنانًا شغوفًا. هذان الصديقان يمثلان جزءًا من ماضي حمزاوي الذي فرّ منه، بعد أن أعطى ظهره للشعر والنضال، ودهس روحه في طريق تحقيق ما رآه جديرًا به من شهرة وثراء واستقرار، قبل أن تستيقظ روحه فجأة لتسأله عن نفسها، ويبدأ رحلة طويلة في البحث عن دهشة جديدة تعيد إليه الحياة، أو نشوة واحدة تشتعل داخله دون أن تتحول لرماد. حمزاوي، الذي يستمع إلى نصائح طبيبه بالاستجمام في الاسكندرية وممارسة الرياضة وفقدان الوزن، يرسل لمصطفى صديقه قائلًا «أبشر يا عزيزي بأنني أتقدم نحو شفاء جسماني واضح، ولكنني أقترب في الوقت نفسه من جنون طفيف». يزداد جنون حمزاوي عندما يعرف أن ابنته بثينة تكتب الشعر خِلسة. تكتب قصائد رومانسية عذبة محيّرة، تُوقظ الحنين القديم في روحه، ليدرك أن علاجها يكمن في نشوة جديدة أو مغامرة تجدّد دمائها. ولأن مخزونه الروحي قد نَضِب، سواء كان كتابة أو قضية يناضل من أجلها، فلم يعد يمتلك في داخله أطواق نجاته، وصار يبحث عنها في الخارج، متسولًا معجزة تحركه وتُخرِجه مما هو فيه. ومن يتسوّل المعجزات كمن يتسول المال، كلاهما شحاذ. يبدأ حمزاوي، وهو المحامي المشهور، حياته في التسوّل في الملاهي الليلية. يتسول عشق كل امرأة يقابلها، فيتسول حب مرغريت المغنية، ثم يدير الدفة لوردة الراقصة. ولأنه لم يجد في ذلك نشوته، تطول رحلة بحثه عن ذاته، مدركًا أنه كلما انحلت ارتباطاته بالحياة وانفصل عنها، كلما اقترب من النشوة المرجوّة. أحس بذلك في لحظة خلاء في الصحراء، في نفس الوقت الذي كانت زوجته تضع مولودها فيه، كأنها مفارقة بين شخص يدخل للدنيا وآخر يخرج منها. وتتكرر هذه المفارقة عند خروج صديقه خليل من السجن للدنيا، ويقال له إن حمزاوي «تائه يبحث عن روحه»، فيرد في بساطة «أليس هو الذي أضاعها؟» حمزاوي الذي فقد اهتمامه بالشعر، وتخلى عن النضال السياسي، يقرّر أن يصبح خارج التاريخ؛ أن يتلاشى كأنه لم يوجد، بعد أن جرّب تسوّل النشوات بكل أشكالها، واكتشف أن حتى أعظمها، وهي نشوة الحب، لا تدوم. قرّر حتى بعد زواج عثمان بابنته بثينة، في ما يمكن أن نطلق عليه «زواج النضال بالشعر»، أن ينفي نفسه بنفسِه. وعندما تكتمل مأساته وتنتهي رحلته إلى لا شيء، يتذكر بيتًا من الشعر يقول «إذا كنت تريدني حقًّا فلمَ هجرتني؟» في أحد أعداد أخبار الأدب العام الماضي علمتُ من مقالٍ مطول للكاتب محمد شعير عن رواية «الشحاذ»، أن شخصية حمزاوي مستوحاة من شخصية الروائي عادل كامل والذي كان يومًا أحد أعضاء شلة الحرافيش وأكبرهم سنًا. أصدر كامل رواية وحيدة مبشرّة اسمها «مليم الأكبر»، لكنه ترك الكتابة فجأة، واتجه للمحاماة. وعندما سُئل عن سبب عزوفه عن الأدب أجاب «كان الأدب بالنسبة لي حياة، غاليتُ في حبه لدرجة العبادة وأقمته فوق منصة عالية من التقديس،‬ وكانت الصدمة قاسية، ‬مسرحيات لا يعبأ بها المسرح، ‬وروايات نضطّر إلي نشرها بمعرفتنا، ‬ولا يكاد يقرؤها أحد،‬ وأحسست أنني كعروس افتُتنت في زينتها فلما خرجت لملاقاة عريسها لم تجده، ‬ونظرتُ من حولي فوجدت الأدب في ذلك الوقت هو عمل من لا عمل له، ‬عمل العاجزين أو المنحلين من رواد المقاهي، ‬فعزّت عليَّ ‬نفسي أن يكون هذا مصيرها بينما أنا صاحب مهنة قضيت زهرة عمري في تلقّي أصولها، ‬ففعلت ما فعله الشاعر المصري القديم حسين الجزار حين ترك الأدب وفتح محل جزارة. ‬حين أقبلت علي هذه الخطوة كنت أعتقد اعتقادًا راسخًا أن الأدب علامة مرض لا صحة، ‬وأن الإنسان الصحيح لا يفكر في امتهان الأدب، ‬وكنت أقول لنفسي هؤلاء جميعًا عجزوا عن النزول في تيار الحياة الخضم، ‬فقنعوا بالجلوس علي شاطئها يصفون الحياة من بعيد دون أن يعركوها.. ‬والآن، ‬بعد أن بارت المحاماة وبرت معها عدت كما عاد حسين الجزار ‘‬يا ليتني لا عدت جزارًا ولا أصبحت شاعرًا’... ‬فبعد سنوات من التوقف عن الكتابة حاولت أن أعود، ‬لكنني ‬اكتشفت أن قلمي قد صدأ، ‬وأن روحي لم تعد روح كاتب.»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ٢ عثمان بيومي.. البحث عن الاحترام «ما أشد حيرتي بين ما أريد وما أستطيع» عثمان بيومي – حضرة المحترم عثمان بيومي بطل رواية «حضرة المحترم» هو أكثر شخصيات نجيب محفوظ امتلاءً بالتناقضات. تبدأ مأساته عندما ينبهر بمنصب المدير العام؛ باتساع مكتبه وديكوراته وكراسيه. ينبهر بمكانته الرفيعة وباحترام الموظفين له، فيقرّر في داخله أن هذا هو ما يريده بالضبط، أن يصبح «المدير العام»، ولا شيء آخر. وفي سبيل ذلك، هو مستعد لبذل كل حياته للفوز بهذه المكافآة الكبيرة، التي سيصير بعدها «حضرة المحترم» في نظر نفسه. حضرة المحترم هنا ليس عثمان بيومي الشخص، بل هو المُسَّمى الوظيفي «المدير العام»، المُسَمَّى الذي سينقله إلى مكانة كبيرة يستطيع أن يستريح بعدها. تناقُض شخصية بيومي يتجلّى في كل شيء، فمع كونه يلهث وراء مكانة المحترم، ويفعل كل ما يمكن فعله ليصل إليها، نجده يشعر من حينٍ لآخر بألا معنى للحياة بأكملها، وأن «لا نجاة له إلا بالجنون، الجنون وحده هو الذي يتسع للإيمان والكفر، للمجد والخزي، للحب والخداع، للصدق والكذب، أما العقل فكيف يتحمل هذه الحياة الغريبة؟ كيف يشيم ألق النجوم وهو مغروس حتى قمة رأسه في الوحل؟» وفي موضعٍ آخر نجده يقول «كلّنا يتكلم عن الحياه بثقة كأنما يعرفها حق المعرفة. لولا وجود الله سبحانه وتعالى لكانت لعبة خاسرة لامعنى لها». تتحرك هذه العدمية جنبًا إلى جنب مع سعيه الحثيث إلى مكسب دنيويّ صغير مثل منصب المدير العام، ظنًا منه أن كل هذا الشقاء والألم الذي يتحمله في سبيل تحقيق حلمه، سيُمحى تمامًا عندما ينال مراده. لكن عثمان بيومي الذي كان يترقَّى في سُلمه الوظيفي يومًا بعد يوم، كان ينحدر في سلم الحياة بالمقابل. تزداد سِنُّه وتتضاءل فرصته في العثور على الحب، أو أن يكون له ابن. هو يريد أن يتزوج ولكنه يخشي أن يعطله الزواج أو ألا يعود عليه بفائدة مرجوّة، فكان يوصي دائمًا في رحلة بحثه عن عروس، بأن تكون عائلتها ذات حسب ونسب، قدوةً بمديره العام، الذي كانت زوجته السبب الرئيسي في النعيم الذي يعيشه. يزداد بؤسه وشقاؤه كل يوم، لكنه راضٍ مادام يقترب ولو بخطوة صغيرة من الهدف الأعظم. وحين يتزوج من سكرتيرته وبينهما فارق سن كبير، يفاجئه المرض الذي يجعله طريح الفراش وأقرب للموت منه للحياة. عندها فقط، يزوره وكيل الوزارة ليزف إليه نبأ ترقيته لمنصب المدير العام. وصل عثمان بيومي أخيرًا لما أراد، حقق حُلمَه الأعظم الذي قدَّم من أجله كل ما يمكن من تضحيَّات، لكنه في هذه اللحظة طريح الفراش، عاجز عن مغادرته والذهاب لتسلُّم وظيفته الجديدة، هذه هي لحظة الكشف لعثمان بيومي، هي اللحظة التي يقارن فيها ما بذله بما حصل عليه، شقاء حياتِه بنهايته في سرير المستشفى بمنصب حصل عليه اسمًا فقط، وبلا ولد أو حب حقيقي. هنا يترك محفوظ المساحة للقارئ كي يصبح هو شخصيًا عثمان بيومي، ويتخيل ما يمكن أن يحس به، وكل ما يخبرنا به عن عثمان أنه «من محاسن الصدف أن القبر الجديد قد حاز رضاه تحت ضوء الشمس». ٣ محجوب عبد الدائم.. البحث عن المكسب الشخصي «ليكن بى أسوة حسنة فى إبليس .. الرمز الكامل للكمال المطلق. هو التمرٌد الحق؛ الكبرياءالحق؛ والطموح الحق والثورة على جميع المبادئ» محجوب عبد الدائم القاهرة الجديدة محجوب عبد الدائم أحد أبطال رواية «القاهرة الجديدة» وواحد من أشهر شخصيات محفوظ، نظرًا لمعالجة قصته سينمائيًا في فيلم «القاهرة ٣٠» بدور أداه الفنان حمدي أحمد. محجوب مثال للمهزوم الذي يفقد مع هزيمته كل شيء. يتخلى عن أخلاقه ومبادئه ليتمكن من تحقيق انتصارات يعوّض بها هزائمه، لذا لا عجب أن يكون شعاره في الحياة هو «طز». يرى محجوب أن أي شيء لا يحقّق مكسبًا لا يستحق عناء التفكير فيه، وأن أي شيء يحقق النفع، مهما كان غير أخلاقي، هو جدير بكل المجهود. محجوب الطالب بالجامعة، والقادم من قرية فقيرة لأبوين فقيرين يشعر في داخله بأنه ضحية؛ ضحية الفقر والحظ السيء الذي جعله ابنًا لوالديه. يعيش الحرمان منذ صغره و يتطلَّع إلى حياة أخرى، عازمًا على الوصول إليها مهما كلفه ذلك من متاعب. يشعر بعد انتقاله للقاهرة أن له قدمًا في العالم الجديد، ويودُّ لو يمحو ماضيه بالكامل مع عالمه القديم، ولولا احتياجه لأموال والده لكان تبرأ من أهله تمامًا. يتطلَّع محجوب عبد الدائم إلى حمديس بك ابن عم والدته، الرجل الثري صاحب المكانة الكبيرة. ومع أنه يشعر بالحقد عليه، إلا أنه يحاول بشدة التقرب منه ومن أبنائه، لعلّه يفوز بوظيفة جيدة يبدأ بها بناء مستقبل جديد، لكنّه يفشل في ذلك، لتُضاف تلك الهزيمة إلى سلسلة طويلة من الهزائم في داخله. ومع كل يوم يمر عليه يزداد حقده على المجتمع، فهو فقير ينتقل من منزل لآخر أفقر لأنه لا يستطيع دفع إيجاره. لا يجد وظيفة، بل ويفشل في أن تكون له هوية أو مواقف أخلاقية مثل أصدقائه بالجامعة. يحتقر محجوب عبد الدائم ظروفه وفقره ونفسه ويبدأ في الانكماش لتبدو كل الأشياء أكبر حجمًا منه. ولأنه انكمش لهذه الدرجة داخله ولم يعد لديه كبرياء أو كرامة، ولم يتبق له شيء من قيمه وأخلاقه، يصير مهزومًا هزيمة كاملة، ويسعى فقط للانتصار، وبهذا يصبح أي شيء متوقعًا منه، وهذا ما حدث. يصادف سالم الإخشيدي ابن بلدته، الموظف لدى قاسم بك، والذي يشبهه كثيرًا، فكلاهما يبحث عن مكسبه الشخصي بالشكل الذي يستبيح به كل شيء، ويحاول التقرب له، ويطلب منه وظيفة، فيوافق سالم على شرط أن يتزوج محجوب من إحسان عشيقة قاسم بك، ويسمح له بالاختلاء بها مرة كل أسبوع. ولأنه انهزم هزيمة كاملة، لم يوقظ هذا الطلب ما تبقى منه من مروءة، بل فكر بمنطقه القديم «طز». وجد محجوب نفسه فجأة قريبًا من انتصار كبير يتمناه مقابل تنازل أخلاقي، فيقرر القبول قاطعًا آخر صلاته مع أي شيء يعطّله عن الانتصار الشخصي، مدركًا أنه لا يمكن أن يعود كما كان من قبل، ومقتنعًا في داخله بأن «الشرف قيد لا يغلّ إلا أعناق الفقراء». محجوب مليء بكل مركبات النقص؛ أخذ من الفقر والحرمان شقاءهما وذلهما ولم يتعلَّم منهما الرضا أو الاعتزاز بالنفس، هو ساخط على كل شيء، كاره لكل نعيم لا يجري بين يديه، حاقد على كل ثري لا يعطيه من مالِه، متطلِّع شَرِه إلى كل مكاسب الآخرين، حتى أنه يكره زملاءه أصحاب المبادئ لأنه يشعر بتفوقهم عليه. كل هذه الكراهية التي يحملها محجوب بين ضلوعه تجعله مستعدًا لفعل أي شيء لكي يتحوَّل هو إلى من يحقد عليهم؛ ليستطيع أن يتباهى بغِلّ أمام زملائه القدامى، وبفخر أمام والديه، وأن يخرج لسانه لسنين الشقاء والفقر. ينتهي محجوب فعلًا عندما يرى صورته في عين أبيه الذي يكتشف الأمر برمته، وهذه هي لحظة الهزيمة الكبرى الحقيقة له، فكل ما قدَّم من تنازلات أخلاقية كان من أجل مقاومة ذله الداخلي، من أجل أن يرفع رأسه مفتخرًا بنفسه، وها هو يجد نفسه في أشد لحظات الذل عندما يدرك أبوه أن زوجة محجوب على علاقة برجل آخر بعلمه وتسهيله شخصيًا. في تلك اللحظة، ينهدم كل ما بناه محجوب فوق رأسِه، وتكتمل هزيمته على كل الأصعدة. هكذا بحَثتْ كل شخصية عمَّا ينقصها، وسلَكت كل منها مسلكها في الوصول إليها. عايش محفوظ جميع الشخصيات معايشة كاملة ورسم عوالمها الداخلية بدقة وأقنعنا بتاريخها الشخصي. تحدث على ألسنتهم أحيانًا وترك خيالنا يتحدث معهم أحيانًا. قد تجد في كل شخصية شيئًا منك، وقد تسأل نفسك عمّا تبحث أنت في الحياة، وعما إذا كان من الممكن أن يورّطك بحثك لأن تتسوّل مثل عمر حمزاوي، أو تبدّد عمرك في الشقاء مثل عثمان بيومي، أو تتخلّى عن مبادئك مثل محجوب عبد الدائم؟ أن تسأل نفسك يعني أن الدراما انتصرت، وأن الأدب تخطى حاجز الأوراق ليصفعك شخصيًا.
قارن نجيب محفوظ مع:
شارك صفحة نجيب محفوظ على