إبراهيم عيسى

إبراهيم عيسى

إبراهيم عيسى (٩ نوفمبر ١٩٦٥ -)، صحفي مصري. وتولى رئاسة تحرير صحيفة الدستور المصرية اليومية حتّىٰ أقاله مالك الجريدة السيد البدوي في أكتوبر ٢٠١٠ بسبب إصراره على نشر مقالة لمحمد البرادعي عن حرب أكتوبر. ويكيبيديا

عدد الأخبار كل يوم من ولمدة حوالي شهر واحد
من أهم المرتبطين بإبراهيم عيسى؟
أعلى المصادر التى تكتب عن إبراهيم عيسى
«١٩٨٤» المصرية الحرب على الكلمة أحمد القهوجي ٢٨ أغسطس ٢٠١٧ «لم يكن الهدف الوحيد من وراء استخدام اللغة الجديدة هو تقديم وسيط للتعبير عن وجهات نظر أعضاء حزب الاشتراكية الإنجليزية أو عاداتهم العقلية فحسب، بل كان من ضمن الأهداف أيضًا جعل كل طرق التفكير الأخرى مستحيلة. كانت الغاية من وراء وأد اللغة القديمة واعتماد نظيرتها الجديدة ألا يمكن أصلًا التفكير في الفكرة الفاسدة، أي الفكرة التي تخالف مبادئ الحزب، نظرًا لاعتماد الفكر على اللغة... وقد تم التوصل لهذه الغاية من خلال اختراع كلمات جديدة، وبصورة خاصة من خلال حذف الكلام غير المرغوب فيه، وكذلك إسقاط المعاني الثانوية الفلسفية والسياسية عن الألفاظ الباقية.» المقتطفات السابقة من رواية «١٩٨٤» للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، وقد نصحتني زوجتي العزيزة هبة بقراءته بعد أن حدثتها عن رغبتي في كتابة مقال يناقش الظاهرة الحالية لتحجيم الفكر وحرية التعبير في الفضاء السياسي المصري، من خلال إفقار اللغة وسجن الكلمة. في هذه الفقرة، يتحدث أورويل عن الغاية من وراء استحداث اللغة الجديدة (Newspeak)، بعد أن فرغ من شرح قواعدها التي تعتمد على الإنقاص التدريجي للمفردات والاختزال المجحف للأفكار من خلال استخدام مصطلحات مبسطة تخرجها عن معانيها الأصلية، وفقًا لخطة مرسومة من النظام «الثوري» الحاكم، وبحيث يتقبل الناس أن اثنين زائد اثنين تساوي خمسة، لعدم وجود المنطق أو الكلمات التي تسمح بالتفكير بكون الإجابة هي أربعة. وقد فاجأني مدى التماثل في الوسائل بين «وزارة الحقيقة» في عالم أورويل الديستوبي، وبين ما يحدث في مصر حاليًا على مستوى الحرب على حرية الكلمة والتعبير، وإن كنت أستبعد طبعًا أن تكون أية خطة مكتوبة وموضوعة بعناية في درج إحدى الوزارات مجدية، بمعنى أنه لا يوجد إطار عام ولكن يوجد نهج يعكف على عملية تقييد اللغة، وبالتالي الفكر، على المستويات السياسية والقانونية والاجتماعية المختلفة، وهو ما يتضح مثلًا من التوجيهات الرئاسية للإعلام بخلق «فوبيا من سقوط الدولة»، ما يعني بالتبعية إخراج كلمات مثل «مظاهرة» و«مطالب» و«إصلاح» و«ثورة» من دائرة «المفكَّر فيه»، وإدخالها في دائرة الممنوعات اللغوية، وبالتالي تكريس رؤية أحادية للعالم ترى الواقع والأحداث وفق عقلية «اسمعوني أنا بس». ماهية الحرب يقول الفيلسوف الألماني هيردر إن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الفكر، بل هي أيضًا القالب الذي يتشكل فيه الأخير، وبالتالي فإن «كل أمة تتكلم كما تفكر، وتفكر كما تتكلم»، وقد ساهم العالِم السوفييتي ليف فيجوتسكي في تأكيد ما سبق من خلال أبحاثه في علم النفس التي ربطت بين استيعاب اللغة لدى الطفل من جهة، ونموه الفكري من جهة أخرى. استحضار الأراء السابقة لا يعني أني أنكر عجز الكلمات أحيانًا عن التعبير عما يجول بخاطري، ولكن كلمة «كمبيوتر» أو «طائرة» مثلًا تثير في ذهني وذهنك معاني ومفاهيم محددة وواضحة قد يعتبرها ساكن القرن الخامس عشر شيطانية. اللغة إذن تحكم الفكر بدرجة أو بأخرى، ومن هذا المنظور تصبح اللغة مسألة سياسية بامتياز، تسعى السلطة الحاكمة لتقنينها والسيطرة عليها، فلا ننسى إشارة إنجيل لكون جريمة المسيح التي صُلب لأجلها كانت ازدراء الشريعة اليهودية، أي أن كلماته، بما حملته من معان، هدّدت النظام السياسي والاجتماعي السائد آنذاك، بما استوجب قتله. كما أن عملية «التتريك» التي قامت بها الدولة العثمانية تشهد على هذه الرغبة السياسية في السيطرة على الوعاء اللغوي والثقافي للشعوب المستضعفة، وهو ما يذكّر بما قامت به الإمبراطورية الفرنسية في مستعمراتها من سحق اللغات المحلية وإحلال الفرنسية محلها. ما يحدث حاليًا في الفضاء السياسي المصري هو امتداد للسوابق التاريخية التي تريد أن تحكم الفكر من خلال تقييد الكلمة، ولا أدل على ذلك من حجب الحكومة المصرية لعدد من المواقع الإلكترونية، بدعوى نشرها أخبارًا كاذبة، دون تقديم أدلة محددة تدين هذه المواقع، وفي محاولة لتجفيف مصادر الكلمة غير الرسمية. من نفس المنظور يمكن تحليل مشروع القانون المقترح لحظر نشر أي أخبار أو معلومات تتعلق بالمؤسسة العسكرية إلا بتصريح كتابي من القيادة العامة للقوات المسلحة، وهو تعنت يضرب التناول الصحفي الموضوعي في مقتل، ولا يختلف عن ذلك ما حدث لإبراهيم عيسى أو منظمات المجتمع المدني أو الدعاوي القضائية ضد حسام بهجت وإسماعيل الإسكندراني وباسم يوسف، ولعل الأخير أخطرهم لأن برنامجه كان أكثر اختراقًا للبيت المصري، ولأن فكرته قامت على كشف التناقض في كلمة السلطة. يوضح ما سبق الغاية من الحرب على الكلمة؛ ترسيخ نسخة رسمية في قراءة الأحداث لا يأتيها الباطل لا عن يمينها ولا عن شمالها، وتختلط هذه الغاية مع ماهية الحرب بحيث يصعب الفصل بينهما، وفي سبيل ذلك تحرك السلطة الحاكمة مجموعة من الأدوات التي تساعدها على تحقيق هذه الغاية. أدوات الحرب اذا كانت اللغة ترسم حدود الفكر، فان أول أداة لتحجيم الثاني هي بإفقار الأولى. يحدثنا بيير بورديو عن نزوع النظام الاقتصادي العالمي، ممثلًا في هيئات دولية مرموقة مثل صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية ومؤسسات علمية بمكانة كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، لتغيير المعجم اللغوي الاقتصادي، بما يتناسب مع الأيدولوجية النيوليبرالية الأمريكية، فالإمبريالية أصبحت تسمى «عولمة» والاستغلال أصبح «إقصاء»، واختفت من تقارير هذه الهيئات كلمات مثل «رأسمالية» و«طبقات» و«احتكار»، وغيرها من الكلمات التي تعكس الصراعات الاجتماعية أو العلاقات الاقتصادية غير المتوازنة، وهو توجه يرى فيه بورديو نوعًا من الاستعمار الثقافي الرمزي الذي يفرض لغته، وبالتالي مفاهيمه ورؤاه، على الطرف الضعيف. قد يجري إفقار اللغة من خلال الاختزال السطحي للمفاهيم على طريقة «الليبرالية تعني أن تخلع والدتي الحجاب»، فمثل هذا النهج يفرغ الكلمة من حمولتها المعنوية ويدمغها بصيت سيء السمعة يمنع النقاش الحقيقي حولها، كما يكون الإفقار بمنع تداول مجموعة من الكلمات عن طريق تجريم استخدامها، وما يهمني في هذا المجال هو المصدر السلطوي لعملية الإفقار. مع اختلاف المدى والغايات، لنأخذ فرنسا نموذجًا للتدليل على التدخل الرسمي في تقييد اللغة، ولعل المثال الأبرز على ذلك هو تجريم إنكار الجرائم ضد الإنسانية، وبصفة خاصة الهولوكوست، ومعاقبة مرتكبها بالحبس لخمس سنوات وغرامة ٤٥ الف يورو، من خلال ما يعرف بـ«قوانين الذاكرة»، التي يُترك للقاضي فيها تقدير تحقق الجريمة من عدمه. في كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، شكّك الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي في التحقق المادي للهولوكوست، من خلال الجدل الذي أثاره حول مفهوم «الحل النهائي» الذي اعتمده النظام النازي للتخلص من اليهود، وترتب على ذلك إحالة جارودي لمحكمة الجنايات الفرنسية التي عاقبته على كلماته، من منطلق أن حرية التعبير لا تكفل التشكيك في وقائع متحققة، حتى على مستوى البحث الأكاديمي التاريخي، وأن مجرد الإنكار، ولو بطريق الإشارة، يكشف عن شخصية تعادي السامية وتبرّر لجرائم النازية، أي أن التعبير بكلمات تخالف القراءة الرسمية للماضي يضع صاحبه تحت طائلة المساءلة الجنائية. على نفس المنوال يمكن النظر للجدل المثار حول عبارة «لستُ شارلي»، التي انتشرت بعد الحادثة الإرهابية التي طالت الجريدة الساخرة «شارلي هبدو»، في تعبير من بعض المواطنين عن عدم موافقتهم على المحتوى الذي تقدمه الجريدة. وبصرف النظر عن موقفهم الشاجب للحادثة أو المدافع عنها، فمجموع هاتين الكلمتين ترتّب عليه فصل لاعب كرة سلة من فريقه عقابًا له على سوء فعله، كما فُصل عدد لا بأس به من طلاب المدارس ممن استخدموا هذه العبارة على موقعي تويتر وفيسبوك. كان هذا على المستوى الاجتماعي، أما على المستوى الرسمي، فالمشرع الفرنسي يعاقب على جريمة التبرير للإرهاب، أي التعبير بالكلمات كتابة أو قولًا عن موقف يتضامن مع هذه الأفعال أو يبررها بأي شكل من الأشكال، ومن المضحك المبكي ما قامت به شرطة مدينة نيس، بناء على هذا النص، من استدعاء طفل عمره ثماني سنوات، تفوه بعبارة «لست شارلي» خلال إحدى الحصص المدرسية، للتحقيق معه في جريمته، فما كان منه الا أن أجاب المحقق بأنه لا يفهم أصلًا معنى كلمة «إرهاب». بعيدًا عن النقد الموجه لمسلك الشرطة الفرنسية في هذه القضية، إلا أنه يعكس وجود محاكم تفتيش لغوية مهمتها الكشف المبكر عن الاختلالات السلوكية للأطفال، وصولًا لتصنيفهم بحسب درجة استعدادهم للانحراف، بتعبير دينيس سالاس. ومع اختلاف المدى والغايات أيضًا، فإن السلطة الحاكمة في مصر تتدخل كذلك لتقييد الفكر، من خلال إفقار اللغة على مستويين اثنين الأول هو تجريم الكلام غير المرغوب فيه من خلال نصوص فضفاضة تعاقب على خدش الحياء العام مثلًا أو ازدراء الدين، وتُفعَّل هذه النصوص في المحاكم، حين تعتبر الدولة أن النظام الاجتماعي قد جرى المساس به، وبناء عليه ترى محكمة جنح مستأنف بولاق أحمد ناجي من هؤلاء «الكتاب ]الذين[ يسعون فى الأرض فسادًا ينشرون الرذيلة ويفسدون الأخلاق بأقلامهم المسمومة تحت مسمى حرية الفكر»، وهو بذلك يهدّد دور المشرع في «حماية للأخلاق والأدب مما يفسدهما، وحماية للمجتمع والكرامة الأدبية للجماعة التى قوامها الدين والأخلاق والوطنية». ولنا أيضًا عبرة في بلاغ الأزهر بحق إسلام البحيري الذي اعتبره «يبث أفكارًا شاذة تمس ثوابت الدين، وتنال من تراث الأئمة المجتهدين المتفق عليهم، وتسيء لعلماء الإسلام، وتعكر السلم الوطني، وتثير الفتن». فمجرد الحديث في نقد التراث ورفع القداسة عن بعض الشخصيات التاريخية لا بد من التصدي له بشدة، لأنه قد يجعل من المقبول نقد وتعرية قداسة شخصيات الحاضر. أما المستوى الثاني فهو إعادة تعريف بعض المفاهيم، بما يخرجها عن دلالتها المعنوية المستقرة كما في مثال «الليبرالية تعني أن تخلع والدتك الحجاب»، فعبارة «تحيا مصر» مثلًا أصبحت غمزة للنظام الحاكم ورأسه، وعبارة «حقوق الإنسان» تستدعي المؤامرات الكونية والتمويل الأجنبي، و«ثورة يناير» تحولت إلى «٢٥ خساير»، بل أن مفهوم «الثورة» نفسه أصبح مقتصرًا على ذلك الحراك الشعبي الذي تقوده أو تدعمه إحدى مؤسسات الدولة (غالبًا العسكرية)، على طريقة «مبارك أول من أيّد ثورة يناير»، بصوت فريد الديب. على أن التجريف المعنوي الأخطر والأعمق قد أصاب مصطلح «الوطنية» الراسخ عبر التاريخ والمتمحور حول مفهومي «الأرض» و«العرض»، وفقًا لعقيدة زرعتها السلطة في وجداننا من خلال الأدوات الثقافية والمناهج الدراسية، بداية من طرد الهكسوس، مرورًا بصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز وانتهاء بحرب أكتوبر وملحمة طابا، تلك التي رسخ في الوجدان الشعبي أن التنازل عنها بمثابة تخلي الأم عن أولادها، وفقًا لتصريح حسني مبارك في احدى المقابلات الصحفية، حين مال بجانبه الأيمن الى الأمام قليلا في نفس اللحظة التي ركز فيها المخرج الكادر على محياه عند التلفظ بالتشبيه في قمة الأداء المسرحي. هذا المفهوم الراسخ للوطنية تزلزلت أعمدته حين أثير موضوع التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة السعودية لأول مرة، وتشقق سقفه حين طعنت الحكومة بنفسها على حكم بطلان التوقيع على الاتفاقية، وتهدم الصرح على رؤوس من فيه حين ضربت الحكومة عرض الحائط بالحكم النهائي لمجلس الدولة بمصرية تيران وصنافير، وأحيلت الاتفاقية إلى مجلس الشعب الذي صادق عليها في عجالة، وبالتالي أصبح المطالبون بمصرية الأرض «في الأساس خونة ويجب محاكمتهم، لأنهم يعملون من أجل مصالح شخصية لا مصلحة الوطن»، في مشهد عبثي وقع فيه العقل والمنطق رهينة الغوغاء، وأبدى البعض فيه استياءه من ورود اسمه خطأ ضمن النواب الذين قالوا بمصرية الجزيرتين. وفي جميع الأحوال أنهى الرئيس الجدل فيه بتوجيه واضح «مش عايزين كلام في الموضوع تاني»، لأن مجرد الكلام فيه مسلك مرفوض، فما بالك بالتظاهر حوله؟ وقد اكتمل تشويه معنى «الوطنية» حين أصبحت تعني حصريًا موالاة الرئيس والنظام الحاكم في كل همساته ولمزاته، فحين تنتقد أو تعترض، أو بأضعف الايمان تتساءل، تصبح خائنًا وعميلًا وخلية نائمة وطابورًا خامسًا. كان هذا عن الأداة الأولى للحرب والمتمثلة في تقييد الفكر من خلال إفقار اللغة، وهي تعتمد بالأساس على الحذف والتكرار وقصر ذاكرة الشعوب، على أن هناك سلاحًا أخر أقل استخدامًا ويقتضي تحريك طاقات ابداعية أدق، يتمثل في خلق كلمات جديدة تخدم أهدافًا سلطوية وتفرض واقعها الخاص على حركة الفكر. ولعل الإمبراطورية الفرنسية كانت سبّاقة في هذا المجال، فسلطة الاحتلال في الجزائر والمغرب ومدغشقر وهايتي وغيرها وظّفت مصطلحات جديدة هدفت لإخفاء مطامعها الاقتصادية وتغطية أهدافها الاستعمارية، فما قامت به لم يعد استعمارًا، بل «مهمة حضارية.. mission civilisatrice» اقتلعت بها السكان من جذور التخلف، والضريبة الظالمة المفروضة عليهم تصبح «ضريبة تهذيبية..impôt moralisateur» تهدف لتعليم الشعب قيمة العمل في زراعة قصب السكر المستخدم في إنتاج مشروب الرَم، بدلًا من حياة البداءة غير المنتجة رأسماليًا، وأخيرًا فإن الشعب الذي ينتزع حريته بساعديه عليه دفع «ثمن الاستقلال.. prix d’indépendance» عبر إيداع ٨٥% من الاحتياطي النقدي له في البنك المركزي الفرنسي، وهو ما تقوم به حتى اليوم ١٤ دولة أفريقية لم توف بعد دين احتلالها رغمًا عنها. كما أنه، وعلى نفس المنوال، يمكن تحليل مصطلح «الحرب الاستباقية» الذي طالعتنا به النخبة الأكاديمية في الولايات المتحدة تبريرًا لحرب العراق، واعتمده فيما بعد جنرالات الحرب الأمريكيون. أما على مستوى الفضاء المصري، فلن أطيل الحديث كثيرًا عن إثراء معجمنا اللغوي بمصطلحات مثل «مجلس إدارة العالم»، تلك الهيئة الميتافيزيقية التي تارة ما تحيك المؤامرات ضد الدولة المصرية وتسخّر في سبيل ذلك الموجات الكهرومغناطيسية والزئبق الأحمر، وتارة أخرى نسعد بعضوية الرئيس لها، فهذا المصطلح كان صنيعة الإعلاميين ولم يسهم في صنعه مصدر رسمي. المثال الأدق لهذا النوع من الأدوات الرسمية للحرب على الكلمة والفكر هو ابتداع مصطلح «أهل الشر» الذي يستخدمه الرئيس بإفراط، حتى من قبل وصوله للحكم في ٢٠١٤، وهو يعرفهم بقوله «أهل الشر شر يعني!» ومن خصائصهم أنهم ينشطون في مواسم معينة، كما أن شرهم هو السبب في افتقاد السلطة للشفافية في التعامل مع الشعب، فلا تفاصيل خاصة بالميزانية ولا شرح للمشاريع التنموية ولا تصريح بأماكن إنتاج الغاز حتى نتجنب خطرهم، وبجانب قدراتهم العالية على التنصت، فان أيديهم متشعبة في أماكن متعددة، فهم مصدر خطر على المملكة السعودية، وهم بذاتهم ضالعون في اغتيال النائب العام السابق وحادث الطائرة الروسية. تتسع مطاطية العبارة لتنطوي تحت لوائها مشارب مختلفة، سواء قوى دولية أو إقليمية أو حتى معارضة محلية، إلا أنها أصبحت مقدمة منطقية يتداولها الناس بدون تشكيك، وهنا خطورتها على تحجيم الفكر. سلاح الردع تحت عنوان «الحرب على الكلمات»، تنشر مجلة «أوت أند أباوت» الأمريكية عمودًا شهريًا، تحاول من خلاله الدفاع عن اللغة الإنجليزية من التشويه وسوء الاستخدام، ورغم اعتراف كتّابها بصعوبة التحدي، إلا أنهم يدركون أن مدخل الفكر هو اللغة. إن مساحات الحرية في مصر تتناقص بسرعة هائلة في السنوات الأخيرة، وبصفة خاصة على مستوى الرأي العام السياسي والثقافي، فالأقلام تُكسر والأجساد تُسجن والأفلام والأغاني تُمنع، ولا يبقى للروح سوى ميدان الفكر لتعلو فيه على المحظور وتعلن من خلاله تمردها وعصيانها، ومن هنا أهمية المقاومة على المستوى اللغوي التأسيسي، وضرورة مراجعة السلطة حين تؤطر الحاضر بكلماتها ورؤاها، حتى لا يقع إدراكنا فريسة فتنة الكلمات، ونضطر ذات يوم أن نحلم، كما حلم بطل رواية «١٩٨٤» في مذكراته، بزمن يتحرر فيه الفكر وتسود الحقيقة وتُقبل إمكانية الاختلاف بين البشر.
من «مصطفى محمود» إلى «رابعة» السياسات المميتة لـ«القرف» شادي لويس ١٦ أغسطس ٢٠١٧ كانت المرأة الجالسة أمامي قد أخرجت رأسها من شباك الميكروباص، حين مر بميدان مصطفى محمود، قبل أن تشير بتأفف إلى خيام اعتصام اللاجئين المنصوبة في منتصفه، قائلة لرفيقتها الجالسة بجانبها «حاجة آخر قرف». بررت المرأة امتعاضها بقولها «بيقولوا عندهم إيدز وأمراض معدية». لم تكن هذه المرة الأولى التي أسمع بها بمثل تلك الادعاءات، فقد كنت سكنت في شارع جانبي لا يبعد عن الميدان سوى شارعين فقط، لمدة شهور قليلة بنهاية عام ٢٠٠٥، والتي تصادف خلالها بداية الاعتصام وفضه أيضًا. وخلال فترة الاعتصام، كانت الشكاوى المعتاد سماعها من الجيران، هي كونه مصدرًا للقذارة والروائح الكريهة، فالناس فيه لا يستحمون بالطبع، ويتبولون ويتبرزون داخله، غير أن «الافارقة» يسكرون أيضًا، ويمارسون الجنس هناك، ومعروف عنهم نشر الأمراض المعدية. لم يكن كلام سيدة الميكروباص صادمًا لي، أو غير معتاد، لكن ما أصابني بالرعدة، هو ما قالته لاحقًا. فبعد دقائق من الشكوى الممزوجة بتقزز واضح، نظرت المرأة إلى رفيقتها، قائلة «المفروض الحكومة تقتلهم»، فما كان من رفيقتها إلا أن شهقت «حرام عليكي، يحطوهم في الصحرا بعيد عن الناس وخلاص». اقتراح سيدة الميكروباص لم يكن سوى نبوءة كُتب لها التحقق، ففي فجر ٣٠ ديسمبر، اقتحمت قوات الشرطة المصرية حديقة ميدان مصطفى محمود، بغرض فض الاعتصام الذي كان قد استمر لثلاثة أشهر، مستخدمة القوة المفرطة وغير المبررة، والتي أودت بحياة ٢٧ لاجئا، بحسب وزارة الداخلية، و١٥٠ ٣٠٠ قتيلًا بحسب تقديرات منظمي الاعتصام. كانت المشاهد التي عُرضت على شاشات التلفزيون في اليوم التالي مفزعة، فغير العنف غير المبرر من جهة الشرطة، كانت صور الأهالي وهم يسحلون جثث القتلى، بينما يضربها البعض الآخر بالمواسير الحديدية على رؤوسها، أمرًا غير قابل للتصديق أو الفهم. القرف يقتل لم يكن الاعتصام مسيسًا، بمعنى أنه لم يستدع انقسامًا بين المصريين على خطوط خصومات سياسية أو صراعات إيديولوجية، فمعظم الأهالي في المنطقة لم يكونوا يعرفون الغرض من الاعتصام، وفي أكثر الأحوال كانوا غير مهتمين بالمعرفة. وحتى حجج تعطيل المرور، وسد الطريق العام، لم تكن أمورًا يشكو منها أحد. لم يكن هناك غضب، ولا كراهية، ولا سياسة، ولا خوف، ولا مصلحة، فما الدافع لكل تلك القسوة الدموية؟ ربما يبدو القرف شعورًا هامشيًا، وأحيانا غير مفهوم، لكنه يقتل. اجتذب القرف، بوصفه شعورًا إنسانيًا نواجهه بشكل يومي وفي كل التفاصيل الحياتية، قدرًا معتبرًا من الاهتمام الأكاديمي والبحثي. فالنظريات البيولوجية والتطورية لسيكولوجيا القرف نظرت له بوصفه شعورًا غريزيًا معنيًا بتحاشي الضرر. كانت تلك النظريات قد ربطت شعور القرف بالموت، وكل ما يستدعى للذهن علامات التحلل والهلاك والضعف، سواء بشكل مادي كالروائح الكريهة والدماء والتشوه الجسدي وغيرها، أو بشكل معنوي كالبدائية والتخلف الحضاري، أو حتى الممارسات الجنسية الخارجة عن المألوف، والتي تستدعى شعورًا بالغثيان. حتى وإن بدت تلك النظريات مقنعة، وهي صحيحة فعلًا في أحيان كثيرة، إلا أنها لا تفسر كيف أن الأمر الذي يستدعي القرف لدى مجتمع معين، أو لدى أفراد منه، قد يكون مقبولًا، أو حتى مشتهى، لدى مجتمع آخر، أو أفراد منه، بل وربما للجميع في فترة تاريخية مختلفة. كانت إجابة النظريات البنيوية وما بعدها، أن القرف مسألة اجتماعية، تتشكل عبر عمليات دينية وتربوية وسياسية وأخلاقية، تحدّد السائد والمقبول والمباح، كما تضع قيودًا على الممنوع والمحرم والشاذ، وهكذا يتعلق القرف في جوهره بالحكم الأخلاقي والقيمي. تختلف تلك النظريات في أصول القرف وتفسيره، لكنها تتفق على أنه شعور حصري، يختلف عن الخوف. فإذا كان الموت حافزًا لكل من الشعورين، القرف والخوف، فإن الخوف يستدعى المواجهة أو الهرب، بحكم الضرورة، ويتأسس على شعور بالندية أو الدونية في مواجهة موضوعه، فيما يستدعي القرف اللفظ أو الإشاحة، بفعل الحكم الأخلاقي المضمر فيه، ويتأسس على شعور بالفوقية والتعالي على موضوعه. لكن ربط الخوف والقرف بالموت، وكذا بالحاجة لإفناء مسبباته، سواء ماديًا أو معنويًا، يقودنا لأن كلًا من الشعورين قد ينتهيان بالقتل، بندية في حالة الخوف، وبفوقية، وهي الأبشع، في حالة القرف. هكذا تبدو مفهومة لنا الصور الدونية التي روجتها الإدارات الاستعمارية عن الشعوب المستعمَرة، عن بدائيتهم وهيئاتهم المنفرة وعاداتهم غير الصحية وأمراضهم المعدية وسلوكياتهم اليومية القذرة، لتبرير القمع والقتل والعبودية. وكذا كيف كان للبروباجندا النازية أن توزّع صورًا كاريكاتورية لليهود بأنوف كبيرة وظهور محدودبة ووجوه قبيحة، لتحفيز القرف ضمن مشاعر أخرى كثيرة، تمهيدًا للحل النهائي. كما لا عجب أن تخرج الصحافة، في اليوم التالي لمذبحة مصطفى محمود، لتربط بين الاعتصام والقذارة والأمراض المعدية، مشفوعة بتصريحات لعادل إمام، سفير النوايا الحسنة لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين، تربط بين اللاجئين وبين مرض الإيدز، مع تعليق لمذيعة مصرية عن المعتصمين، بمفاده فإن «شكلهم زي القرود». رابعة كحرب بين الخير والشر! الأمر يتعلق بالعنصرية بالطبع، لكن القرف أيضًا كان واحدًا من أقوى المشاعر المتضمنة في كل القناعات والممارسات التميزية ودوافعها، فمن منا لم يسمع عبارات تنعت الأقباط بكونهم «ملزقين»، أو «مزيتين»، أو أن رائحة بيوتهم «مكمكمة»، ومن لم يلاحظ الشعور العميق بالتقزز، الذي يتحول إلى كراهية عنيفة في أحيان كثيرة، والكامن في «رهاب المثلية»!؟ في ورقته البحثية، «سيكون هناك دم توقعات وأخلاقيات العنف خلال موسم مصر العاصف» المنشورة بالإنجليزية هذا العام، يقدم الباحث الفنلندي صامولي شيلكِه سردية محكم وشديدة الإيجاز للعمليات السياسية والخطابية التي قادت لمذبحة رابعة. ما ينطلق منه شيلكه هو أن المذبحة لم تكن مجرد قسوة مفرطة من الشرطة، ولا أن النظام الحاكم تعمد الوصول لمواجهة دموية صفرية، سيربحها بالتأكيد في النهاية، بل أن العنف والمواجهة الدمويتين، ودعمهما جماهيريًا، كل هذا كان خيارًا أخلاقيًا منتظرًا ومتوقعًا، بل ومرغوبًا، ساهمت في تجذيره كل القوى المؤثرة على الساحة السياسية، بما فيها القوى الثورية والعلمانية، وعملت على تكثيفه الآلة الدعائية للنظام. ما يذهب إليه شيلكه أن رابعة كانت قد أضحت معركة مصيرية بين الخير والشر، واجبة الحسم لدى الكثيرين من مؤيدي النظام، وكذا معارضيه من العلمانيين. اللافت للانتباه في ورقة شيلكه هو تقريرها للطبيعة الأخلاقية للعنف في رابعة وما تلاها، وتركيزها على مشاعر الكراهية والغضب والخوف والقلق والارتباك، التي برّرت العنف بفعل كثافة الاستقطاب السياسي وخطابات القوى المؤثرة وتكثيفها إعلاميًا. كان اتهام الإخوان بخيانة الثورة، والتفريط في دم الشهداء، والتحالف مع العسكر، وتهديد الأقليات والنساء وعلمانية الدولة، وبالهيمنة على مفاصل الدولة والاستئثار بمواردها، وبالعمالة لقوى أجنبية، وبالتساهل مع الإرهاب، وحتى بامتلاك أسلحة نووية في اعتصامهم، كلها مبررات كافية لفهم مشاعر الغضب والكراهية والخوف التي انصبّت على المعتصمين في رابعة، ولفهم طبيعتها الأخلاقية أيضًا. لكن ما لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أيضًا هو مشاعر القرف غير المسيسة التي جرى تكثيفها تجاه المعتصمين في رابعة، والتي كان لكثير من غير المعنيين بالسياسة أن يتجاوبوا معها. روّجت وسائل الإعلام لكون الاعتصام شديد القذارة وتنبعث منه الروائح الكريهة، وتساءلت عن الكيفية التي يصرف بها المعتصمين فضلاتهم وقمامتهم، والطرق التي يحافظون بها على نظافتهم الشخصية. كما كان موضوع الأمراض المعدية التي يحملها المعتصمون أمرًا متداولًا، وحذر الإعلامي إبراهيم عيسى من الجرب المنتشر في الاعتصام. أفارقة وريفيون كل هذا كان طبقة واحدة من مبررات القرف. كانت الإشارة إلى الأصول الريفية للمعتصمين المجلوبين إلى المكان في باصات، ومستوياتهم الاجتماعية المتواضعة، سببًا للتقزز المعنوي هذه المرة. وكما روّج الإعلام في بداية الثورة لاحتواء اعتصام التحرير على «علاقات جنسية كاملة»، فإن «جهاد النكاح» كان دعاية التقزز الأخلاقي في رابعة، جنبًا إلى جنب مع اتهامات للمعتصمين بقتل بعضهم بعضًا، ودفنهم القتلى تحت المنصة. بالطبع كانت صورة «الإسلامي»، بهيئته ولباسه ولحيته الكثة ورجعيته وبربريته وسلوكه الفظ، حتى وإن كانت سابقة على رابعة، قد حفزت أيضًا خليطًا من التقزز والخوف في آن واحد من المعتصمين، كما كانت صورة «الأفارقة» في مصطفى محمود. لا يعنيني هنا مدى صحة كل تلك الصور والتصورات والادعاءات والاتهامات التي تخص معتصمي رابعة، أو غيرهم من الضحايا، لكن الأمر الجدير بالحسرة والفزع معًا، هو التمعن في سياسات القرف المميتة، وطغيان مشاعرها الكثيفة التي بررت القتل، واستدعته في مذبحة وراء مذبحة، والتحديق في كل مشاهد الجثث والدماء، التي وإن بُرّر سفكها وارتُجي لأسباب كثيرة، وبفعل مشاعر عديدة ومتناقضة، إلا أن أبشعها كان «القرف»، في تعاليه وفوقيته المميتة.
قارن إبراهيم عيسى مع:
شارك صفحة إبراهيم عيسى على